الشريف الرضي (كاشف الغطاء)

اشارة

نام كتاب: الشريف الرضي( كاشف الغطاء)

نويسنده: آل كاشف الغطاء، محمد رضا

تاريخ وفات مؤلف: 1947 م

موضوع: شعر عربى- نقد و تفسير

زبان: عربى

تعداد جلد: 1

ناشر: الذخائر

مكان چاپ: قم

سال چاپ: 1420 ه. ق

نوبت چاپ: اول

ترجمة المؤلف

اشارة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمد للّه رب العالمين و الصلاة و السلام على نبيه محمد بن عبد اللّه و على آله و من والاه.

و بعد:

هذه نبذة موجزة من حياة العلامة الفقيه مؤلف هذا الكتاب الموسوم ب «ترجمة الشريف الرضي».

نسبه و ولادته

هو العلامة الكبير و الفقيه المحقق و الكاتب النحرير الجامع لفضيلتي النظم و النثر أبو علي الشيخ محمد رضا نجل الحجة الفقيه الهادي بن الشيخ عباس بن الشيخ علي بن الشيخ الأكبر الشيخ جعفر صاحب كشف الغطاء (قدس أسرارهم).

ولد في النجف الأشرف ليلة الأحد التاسع من شهر شعبان سنة (1310 هجرية) و ترعرع في أكناف بيتهم العامر الذي كان يعج بأعلام الفضل، و تعبق أشذاؤه بنفحات التقوى.

أساتذته

كان أول من أخذ عنه من أساتذته أباه الشيخ هادي حيث أخذ المقدمات، ثم أختلف إلى حلقات المشاهير من أعلام عصره فقرأ

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 2

«الكفاية» على السيد أبو الحسن الموسوي الأصفهاني و «نجاد العباد» على شيخ الشريعة و على الشيخ علي القوجاني، كما حضر في الأصول على الفقيه المجدد الشيخ النائيني و كتب تقريراته و على الشيخ اغا ضياء الدين العراقي و كتب تقريراته، و دأب على هذه الحال من مواصلة الحضور إلى مجالس أبحاث أولئك العلام حتى بلغ درجة الاجتهاد.

و كان مع ما بلغ إليه من المقام الرفيع أديبا بارعا لا يشق له غبار في عالمي المنثور و المنظوم، كما أن من فحول المحققين في القضايا التاريخية و النوابغ المحلقة في النوادي الأدبية التي كان تبارى فيها شيوخ العلم و الأدب في ذلك الوقت، و تشهد لما قلناه آثاره المتنوعة و كتبه المصنفة في هذه الفنون، و قد كان طيب اللّه ثراه حجة في اللغة و النحو و المنطق و سائر علوم الآلة يرجعوا إليه فيما أختلف فيه منها.

مجلس درسه و تلامذته

كان رحمه اللّه شديد الحرص على إفادة أهل العلم و تنمية ملكات الاستنباط فيهم، و لم يكن ليفرط في الوقت بل كان يسير فيه على منهج دقيق و مراحل منتظم، و كان لتدريسه مجلسان عامران أولها عند الصباح و الآخر بعد العشاءين كما أشار هو إلى ذلك في دفتر يومياته المخطوط و المحفوظ في مكتبة كاشف الغطاء، و كما شهد بذلك معاصروه من أهل الفضل. قال صاحب كتاب «ماضي النجف و حاضرها» (3/ 191) «تخرج الكثير من الأفاضل من مدرسته و كانت حلقات درسه تحتوي على كثير من مهرة الفن، و كانت تلاميذه

في علم النحو و المنطق و المعاني و البيان و الأصول و الفقه و الهندسة لا يفضلون

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 3

أحدا عليه، و له آراء مبتكرة و آراء مستحدثه ضمنها في العلوم المذكورة و كان محل تدريسه و بحثه هو مقبرة جده العباس».

و قال الأستاذ الخاقاني في «شعراء الغري» (8/ 419): «أما علمه فقد ظهر في آثاره ظهورا قويا و في حلقته التي أختلف عليها كثير من فضلاء العصر فكان يمتاز فيها بحسن العرض و قوة الأداء». و من تلامذته أبنه الأكبر الفقيه الحجة الشيخ علي (قدّس سرّه).

آثاره العلمية

ترك شيخنا المترجم (رضي اللّه عنه) آثار مهمة و مصنفات جليلة في جملة من العلوم التي مهر فيها، و قد طبع بعضها و ما زال القسم الآخر ينتظر الطبع و إليك أسماءها:

1- «حاشية على كفاية الأصول». (مخطوطة).

2- رسالة في الخط العربي. (مخطوطة).

3- خمس مقالات في الهندسة تعرض فيها لأغلب الأشكال التي ذكرها أقليدس في كتابه و قد برهن عليها بوجه آخر لم يذكرها اقليدس و لا العلامة الطوسي. (مخطوطة).

4- رسالة في اللغة بعنوان «الفرق بين الضاد و الظاء». (مخطوطة).

5- الفصول الرائقة في الأمثال العامية الدارجة في العراق. (مخطوطة).

6- كتاب في الرد على النصارى حاكم فيه بين الإسلام و النصرانية الموسوم «الحق المبين فيمن يجب اتباعه من المرسلين» (مطبوع).

7- كتاب «الرق في الإسلام»، عالج فيه المواضيع المشكلة في الرق.

(مخطوطة).

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 4

8- ديوان شعره. (مخطوطة).

9- ترجمة الشريف الرضي. و هو مطبوع/ النجف الأشرف/ الناشر شيخ العراقيين/ دار النشر و التأليف. و قد ذكره صاحب الذريعة في موضعين الأول في المجلد السابع الصفحة (119) بعنوان حياة الشريف الرضي و الثاني في المجلد الرابع عشر الصفحة (188)

بعنوان الشريف الرضي. و هما كتاب واحد.

10- تحقيق و تعليق على الجزء الخامس لكتاب حقائق التأويل للشريف الرضي/ الناشر جمعية منتدى النشر/ دار المهاجر/ بيروت.

11- كتاب الغيب و الشهادة. قال صاحب الذريعة (16/ 84) «فيه مباحث الروح و عالم البرزخ و المعاد و أحوال القبر و البعث و غيرها» طبع في النجف الأشرف في 1346 هجرية.

وفاته

لبى نداء ربه بعد إصابته بمرض السكر و هو في مصح بحنس بلبنان سنة 1366 هجرية، و نقل جثمانه الطاهر إلى النجف الشرف حيث دفن في مقبرة آل كاشف الغطاء بجوار جده و أبيه (طيب اللّه ثراهما).

عقبه

أعقب خمسة أولاد و هم:

1- الفقيه آية اللّه العظمى الشيخ علي المتوفي 19 رجب 1411 ه.

2- الدكتور محمد. 3- الأستاذ أحسن المتوفي في 1410 ه. 4- الحقوقي الأستاذ جعفر. 5- حسن المتوفي (1348 ه) و عمره ثمان سنين.

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 5

مصادر ترجمته

1- طبقات أعلام الشيعة/ 1/ 775.

2- ماضي النجف و حاضرها/ 3/ 191.

3- شعراء الغري/ 8/ 418.

4- الغدير/ 4/ 182.

5- هكذا عرفتهم/ 1/ 143.

6- الذريعة في مواضع متفرقة.

7- كتب ولده سماحة آية اللّه الشيخ علي (قدّس سرّه) ترجمة حافلة لوالده الرضا جاءت مع ما قيل في تأبينه من نظم و نثر في ستة مجلدات.

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 6

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم للهاشميين طموح نحو العرش الإسلامي و هم وراثه الشرعيون و هذه النزعة السياسية تتحلب من أصلابهم و تنحدر في دمائهم و تداث في غرائزهم، و لهاكمون و بروز يلاحظ بمظاهر مختلفة و يتحمل أعباءها الدم تارة، و القلم أخرى.

و إذا استعرضنا التأريخ نجد أن أكثر الوقائع التي يقوم بها الهاشميون في وجه الحكم لا تنتهي إلّا بالفشل، و أهم أسباب هذا الفشل لمن تدبر هو أن ذلك النمط من تلك الوقائع كان ينشأ في ظروف خاصة و أحوال استثنائية و فترات من الحكم مؤقتة، ما تفتأ أن يستعاد لها النشاط و يتظافر على إحباطها العرش و الزمن و القوة الدموية و مستقر المرجعية الدينية ما يتماشى منه مع السلطة و الآخر الذي نهج خط الانعزال السياسي و إليك كلمة في هذا الشأن.

إن مسألة الخلافة هي القضية الوحيدة التي امتهنت بها الوحدة الإسلامية و ارهقتها في الصدر الأول و في القرون المتوسطة، و عصفت بالتضامن الإسلامي و شقت عصاه، و قد حسبت

لها حسابها الأئمة الطاهرون من ولد علي (عليه السّلام) و تمسكوا حولها بمبدأ السر الألهي الذي استودعوه فغسلوا أيديهم في سبيلها من دم الخلاف و ردوا في شأنها سيوف الفتن الى أغمادها. فتنازل الحسن (عليه السّلام) عن السلطة الزمنية لمعاوية، و جرى على ذلك من بعده من الأئمة الأثنى عشر (عليهم السّلام)

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 7

حرصا منهم على سلامة كيان الدولة الإسلامية. و كان أول تصريح ملوكي لفصل السلطة الزمنية عن السلطة الدينية في التأريخ الإسلامي هو ذلك الخطاب الذي أفصح به معاوية في نقض الشروط التي اشترطها الحسن (عليه السّلام) عليه و لم يكن قتال الحسين (عليه السّلام) في كربلاء من قبيل المطالبة بالعرش، إنما أراد به الدفاع و الخلاص من عادية تلك السلطة و أن يظهر للملأ بتركه للبيعة أن تلك السلطة ليست هي من نوع الخلافة الدينية المفترضة طاعتها من اللّه. و هكذا اتبع الأئمة خطة الانعزال السياسي و انصرفوا إلى تأدية الرسالة التي كلفهم اللّه بها.

و لكنهم في ذات الوقت يرون أن حقهم مهتضم إلّا أن الأتباع و الأعمام و المتحمسين من الأبناء لا يروقهم ذلك، فقد سمع الحسن (عليه السّلام) من بعض الخلص من شيعته موحشة قذفتها من فيه فورة الدم و سورة الحماس و الغضب.

و من ذلك الحين رضخ المبدأ العلوي للقوة و انصاع لمقدراتها و تمسك به كل من مسه لهب الحكم و استمال إليه موقفه المهتضم، من الشعوب التي كانت مراتع البغي و العدوان و فتح لها أبواب التفكير في عقيدته و دفع بها إلى اعتناقها.

كانت الدولة الأموية تتحاشى العرب و تهاب الاعتداء عليهم في أقطارهم و العرب أنفسهم لا يرون لها ذلك الشأن الذي يمكنها

التلاعب بمقدراتهم، و بلاد فارس دار مغنم و دهاقينها شاة حلوب و ملك الري هو الذي ينهمر كالسيل بأمواله على خزائن الدولة. أضف

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 8

إلى ذلك أنها سهلة التناول و في الجوار و بلاد الموالي رقاب المزاود، فكانت الولاة تتلاعب فيها ما شائت لهم شهواتهم و أمانيهم، فاضجرها الحيف و الجور و تغلغل في قرار أعماق نفوسها المقت و البغض للدولة، و أصبحوا يرقبون الفرج في كل حين و استلزم ذلك طبعا الميل إلى المعارضة و المشايعة لمن يرغب في هدم هيكل سلطانها.

و البيت الهاشمي هو ذلك البيت الذي ينتظر منه الفرج و العنصر المعارض، و قد أوجب ذلك أن تميل إليه دخائلهم و تنعطف له طباعهم، و قد زادهم عطفا عليه الكوارث و النكبات التي كات تنزلها الدولة به و المظلومية و الامتهان من دواعي العطف و الحنان.

و من هذه الطريق سرت إليهم العقيدة الشيعية فكانوا شيعة بطبيعة الحال، غير أن الجمهور و العامة الدهماء منهم شيعة على الإجمال للبيت الهاشمي بجملته بحكم العاطفة و الوجدان من دون تبصر و روية و لا تمسك بالعقيدة عن علم و دلالة و من دون معرفة بمستقر الإمامة و مهبطها، نعم كان فيهم أعلام يعرفون مواضعه و مراجعه و هذا ما دفع بالخرسانيين لنصرة العباسيين على حساب أنهم فرع من تلك الدوحة الهاشمية و سلالة من تلك الأسرة صاحبة الحق و المضطهدة من قبل الدولة الأموية، فخرطهم في ولايته بسلك واحد و ظن أن القائم بالأمر هو معقد الزعامة و الإمامة و دعوته دعوتهم و ولاؤه ولاؤهم، و جهل كل الجهل ما كان بين العلويين و العباسيين من اختلاف في الرأي و المبدأ. و

لا تنسى أن بعض المتبصرين منهم كان على اتصال مع إمامه

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 9

صلة دينية مجردة ليس وراءها سوى أخذ معالم الدين و كان على علم من مخالفة الأئمة العلويين لأبناء عمهم العباسيين في المبدأ و الخطة و الغاية. و أما ما سطره بعض المؤرخين من أن الدعوة العباسية كانت تعتصم و تستمد من الصلات السرية بالأئمة العلويين، فتلك فرية تاريخية و اسطورة خيالية و السيرة العباسية معهم تدلنا على أن هناك عهدا عباسيا ملوكيا يتوارثه الأبناء عن الآباء فما زال العباسيون يزجونهم في سجونهم و يأخذون عليهم السبل و يقلقونهم بالمنافي. و لا يجهل أحد ما فعله المنصور بجعفر بن محمد (عليه السّلام) و لا ما لقيه ابنه موسى بن جعفر (عليه السّلام) و لا ما انتهى إليه أمر المأمون مع الرضا (عليه السّلام) لقيام العباسيين عليه و إجماعهم على أن ما صدر منه غلطة سياسية كان يجب تلافيها.

إلّا أن الأئمة العلويين دأبوا على اتباع الخطة المثلى و العزيمة الآلهية التي صمموا عليها، فقد أعرضوا عن التاج و العرش الإسلامي، و لقد كان انعزالهم السياسي و موقفهم الديني مباركا على العقيدة الشيعية و من أقوى أسباب حياتها و بقائها و نموها و زكاتها و استفحالها و قد تخطت القرون الطويلة و لم تصدعها الكوارث و الحوادث، و لم يهدها بطش الفراعنة و الجبارين و لم تزعزعها عواصف السياسة. و قد تهيأ لهم (عليهم السّلام) و بالأخص منهم علي بن الحسين (عليه السّلام) من العطف العام و الأنصار و الأعوان و الأموال الطائلة و نجدة الأبطال و مناصرة الرجال ما لم يتهيأ لغيرهم. و علي بن الحسين و هو على حداثة سنه و

مبدأ أمره

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 10

لم يغره ذلك و لا صرفته التوسلات الملحة عن نهجه القويم فمضى على بصيرة من أمره بعزم كالحديد في تقوى و زهادة و إرشاد و عبادة و انقطاع و انعزال، و هذا هو الذي قصر حركات العلويين على الحسرات و العبرات و شل التوسلات الثوروية الدموية التي كان يدبرها بالخفاء بعض أبنائهم المتحمسين، و أصبحت تلك النزعة السياسية و الدخيلة العلوية الكامنة في نفوس أبنائه تتفلت و تبدو تارة بمظهر جدلي علمي على ألسنة علمائهم، و أخرى بمظهر شعري خيالي في شعر فصحائهم و أدبائهم، و تلتهب بها ثالثة قرائح الكتاب فتتفجر أقلامهم كأفواه البراكين و تصقل عبقريتهم الأدلة و الحجج فتلبسها أبرادا موشاة من بليغ الأساليب البيانية، و إذا استقرأنا حياة الشريف الرضي و تتبعنا خطواته و سبرنا شعره و مؤلفاته نجد نفسه متشبعة بذلك الشعور. و لقد ملئ من ذلك الإحساس و هو صورة حقيقية لنفسيته، و به نقيس وجدانياته و منه نعرف نزعاته. و سيرى القارئ فيما يأتي ذلك فان طبعه مطبوع على ذلك الغرار و ذهنيته علوية على ما وصفناه.

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 11

الشريف الرضي

ولادته و نشأته و دراسته

ولد ببغداد مدينة العلم و الأدب، و عاصمة العراق، سنة 359 ه و نشأ في حجر والده الطاهر. و درس العلم في طفولته فبرع في الفقه وفاق أقرانه، في العلم و الأدب، و تلمذ على يد أساتذة من أهل العلم و الفضل كما ينبؤنا كتاب «المجازات النبوية» و قال الشعر، و عمره لا يزيد على العشر حتى فاق شعراء عصره على صغر سنه. فلما بلغ سنّه (29) خلف أباه في النقابة على الطالبين، ثم ضمت إليه مع النقابة سائر الأعمال

التي كان يليها أبوه. و بقي فيها حينا من الدهر، حتى تغير عليه القادر باللّه، لاتهامه بالميل إلى الفاطميين فصرفه عنها، فعاش عيش القانع الشريف إلى آخر أيامه.

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 12

صفاته و أخلاقه

كان أبيّ النفس، عالي الهمة، سمت به عزيمته إلى معالي الأمور، فلم يجد من الأيام معينا، و كان عفيفا لم يقبل من أحد صلة و لا جائزة حتى بلغ من تشدده في العفة أن رد ما كان جاريا على أبيه من صلات الملوك و الأمراء و أجهد بنو بويه أن يحملوه على قبول صلاتهم فما استطاعوا.

آثاره العلمية و الأدبية

للشريف مؤلفات عدة و مصنفات جمة تدل على علمه و فضله و أدبه الغزير، و تضلعه في النحو و اللغة، و أصول الدين، و الفلسفة و غيرها من مختلف العلوم منها:

1- «تلخيص البيان عن مجازات القرآن».

2- «المجازات النبوية».

3- «معاني القرآن».

4- «نهج البلاغة» .

5- «حقائق التأويل في متشابه التنزيل».

6- «خصائص الأئمة عليهم السلام».

7- كتاب سيرة والده الطاهر .

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 13

8- كتاب رسائله: (ثلاثة مجلدات) .

9- كتاب ما دار بينه و بين أبي إسحاق الصابي من الرسائل.

10- كتاب «الزيادات» في شعر أبي تمام.

11- «مختار شعر أبي إسحاق الصابي».

12- «أخبار قضاة بغداد».

13- «تعليق خلاف الفقهاء».

14- تعليقة على إيضاح أبي علي الفارسي .

15- كتاب الجيد من شعر ابن الحجاج و قد أسماه «الحسن من شعر الحسين».

16- (ديوان شعره).

شعره

نهج الرضى في شعره منهج الأقدمين من الشعراء في جزالة اللفظ، و فخامة المعنى تنزه فيه عن عبث الوليد و مجونه، و كان على مكانته في الشعر، راسخ القدم في الكتابة، بعيد الشأو في الترسل.

مغرسه

انحدر من أصلاب الشرف العلوي، و درت عليه أخلاف المجد الهاشمي، و بزغ في ظلال أسرة الزعامة و درج من أحضان الإمامة فكان لهذا أثر بليغ في ترفعه و شممه و مطاولته و محاولاته و عواطفه و ميوله و تحدياته، و أوجب ذلك أن يرى لنفسه كفاية العرش و منازعة

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 14

التاج فيقول للعاهل العباسي:

مهلا أمير المؤمنين فإنناعن دوحة العلياء لا نتفرق

إلا الخلافة ميزتك فانني أنا عاطل منها و أنت مطوق

ما بيننا يوم الفخار تفاوت إلى آخره .......

و لا ينكر عليه القادر باللّه دعواه و لا يستظهر عليه بالتفوق بطيب المغرس و إصالة النجر و كرم المحتد، و لكنه يعتصم بالقوة و يرغمه على النزول لأحكامها فيرد عليه بقوله: (على رغم أنف الشريف).

و كانت شاعرية الشريف و قوة خياله تطير به إلى القمم و الشرفات و تذكي في نفسه الأريحية و الخيلاء و تقرب من أخمصه موطأ الدست و ترد بأفكاره و نزعاته إلى اتجاه معين، و تستعيد له ذكرى مجد السلف الذي طأطأ له أكاسرة فارس و أفيال الروم و لم تستدرجه مصانعة العباسيين. فقد كان يحرق لهم الأرم و ينبزهم باللقب الوضيع، فان الطائع كان يبالغ في إكرامه و اكرام أبيه و لكن الشريف يرى أن ذلك حقه الصريح و ان من الرعونة أن يبيعه ضميره بمغنم حسامه فيقول:

ألا انني غرب الجسام الذي ترى و غارب هذا الأرعن المتسامي

كلانا له السبق المبرر للعلى و إن كان في نيل

العلى أمامي

و ما بيننا يوم الجزاء تفاوت سوى أنه خاض الطريق أمامي

استهل الشريف في حجور المجد، و أورق عوده من دوحة ضربت أعياصها في منابت الفخار و استفاد نوع الثقافة و استقام له اتجاهه النفسي في محيط من السراة و النقباء و العلماء و الأمراء.

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 15

رهطه و أشياخه

شعر الشريف ميادين حروب و غمرات آجال و شعور ملتهب و آلام و آمال و نفس جائشة تتلمظ للوثبة فمن أين تفجر هذا الشعور؟ و ما الذي أجج هذا اللهيب؟ و ما الشريف الرضي من أوله إلى آخره إلّا إعصار فيه نار ...!! لا ريب إن المنافي و الاغلال التي أرهق بها رهطه و آله الأنجاد الأولون، و الأسناد التالون في سبيل منازعاتهم و محاولاتهم، و السجون و الكواظم و الدماء السواجم التي نكلوا بها، هي التي أثارت فيه ذلك الشعور و تعاليه من تلك المعالي و تماجده من مجد أولئك الاماجد، و هنا نقص عليك نتفا من أحاديثهم و على ضوئها تعرف ناحية من نواحي حياة الشريف. أما أبوه الحسين، فكان قوي المنة شديد العصبية، يتلاعب بالدولة و يتجرأ على مقدراتها، و كان نقيب النقباء اسندت إليه أمارة الحج و النظر في المظالم و لقب بذي المنقبتين و لم يلقب به أحد من الطالبيين، و له غلو في التمجيد بآبائه.

و ديوان الشريف مملوء بمدائحه و تهانيه و شكر أياديه، و قد ورث منه هذه النزعة. و لما قبض عليه المطهر بن عبد اللّه، وزير عضد الدولة، و هو و ابن عمر العلوي و ابن معروف قاضي القضاة و حمله إلى فارس و سجنه في القلعة قال له: (كم تدل علينا بالعظام النخرة) و في

ذلك يقول الشريف:

و طاغ يعير البغي غرب لسانه و ليس له من جانب الدين ذائد

تعير ربّ الخير بالي عظامه ألا نزهت تلك العظام البوائد

و لو كان بين الفاطميين رفرفت عليه العوالي و الظبى و السواعد

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 16

و مدائح الرضي لأبيه كلها تستقطب حول الإشادة بمفاخر الأسرة و مآثر البسالة و الاستنكاف عن مصائد الاطماع و الشموخ، بغرر الأيادي و إن الظهير الصادر من ديوان الخلافة في إسداء إمارة الحج له الذي نقرأه في رسائل الصابي و مراثي المهيار له في قصيدته التي مطلعها:

كذا تنقضي الأيام حال على حال و تنقرض السادات باد على تالي

و منها يشير إلى (المرتضى و الرضي):

فيا ليت لم يعدم وفودك عادةبشبليك من عطف عليه و أسبال

و المعري بقوله:

أودي فليت الحادثات كاف مال المسيف و عنبر المستاف

الطاهر الآباء و الأبناء و الأثواب و الأتراب و الآلاف

لخير دليل على ذلك و إن مكانة ولديه (المرتضى و الرضي) تحدد لنا كرامته الاجتماعية بما ذكرناه. و قد أثرت على الشريف قضية القلعة و سجن أبيه فيها و كانت تقلقه و تستثير منه الحفاظ و له حولها اندفاعات حماسية نقرؤها في شعره الذي نظمه عند الإفراج عن أبيه و استقباله و في تهانيه عند عودته إلى بغداد و مكاتباته له و كان يتكظم غيظه في مكاتباته اتقاء من مكر عضد الدولة و كيده ثم تنطلق له حرية شاعريته شيئا فشيئا في الإفراج عنه ثم في استقباله و في تهانيه و لقد كان يهاب عضد الدولة، حتى بعد أن إستخلدت جثته الهامدة في قبره فلا يفصح

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 17

بنبأ هلاك عضد الدولة لأبيه إلّا على سبيل الرمز و الإشارة فيقول له سنة 377

ه:

أبلغا عني الحسين إلّا كان ذا الطود بعد عهدك ساخا

و الشهاب الذي اصطليت لظاه عكست ضوءه الخطوب فباخا

و منها:

أعجلتها المنون عنا و لكن خلفت في ديارنا أفراخا

و أبو الشريف من اسرة بهاليل مساعير سراة مصاليت و مقامه الكريم أهله للسفارة ما بين معز الدولة و الأتراك، و ما بين بهاء الدولة و صمصام الدولة، و لتوسط الصلح ما بين معز الدولة و ابن حمدان، و إطفاء الفتن بين الجندين البغدادي و الفارسي، و الطائفتين الشيعة و السنة، و أمثال هذه الأمور لا يعهد بها إلّا لذي كرامة سامية بين الجماهير، و احترام ذاتي واسع غير مستعار و يظهر لي إن الخلافة العباسية، كانت تخشى إقامته في عاصمتها، فكانت تكلفه بأمثال تلك السفارات و ما يشبهها من وظائفها و قد قضى الشريف أربعة عقود من عمره مع أبيه، توفي أبوه سنة 400 ه و توفى الشريف، سنة 406 ه و هو ابن 46 سنة كان يتلابس فيها بأعماله و يستنيبه في شؤونه أكثر من أخيه المرتضى، و سنذكر لك أسباب ذلك و نوضح لك أن الشريف، كان ينحو عدوة أبيه و خططه و مراميه السياسية و ليس المرتضى من ذلك في شي ء.

و لم يكن عم الشريف، أبو عبد اللّه احمد بن موسى بالخامل

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 18

الذكر الوضيع الشأن فان الذي يظهر لنا من قصيدة الشريف، التي رثاه بها عند وفاته سنة 381 ه و التي مطلعها:

حسام حلا عند الزمان فصممت مضاربه حينا و عاد إلى الغمد

و من الشأن الذي توفى و هو خروجه إلى واسط لاستقبال بهاء الدولة، أنه من رجال الطالبين الذين أسهموا بالفخار و الكرامة، فلا يستقبل الملوك إلّا من يعرفه الملوك

و يقدرون موقفه و من الجائز أن يكون ممثلا لأخيه أبي أحمد الذي كف بصره في آخر أيامه، و كفاه مجدا أن يترك ولديه المرتضى و الرضي، و يخصه بذلك، و أما حال الشريف الناصر فان نسبه ينتهي إلى عمر الأشرف ابن زين العابدين (عليه السّلام) و في سلسلة هذا النسب و رجاله من دوح الملوك، و النابغ في العلم و الأدب و الشاعر المجيد كأبي على الشاعر، الذي أشخصه الرشيد من الحجاز، و حبسه في بغداد، و أفلت من حبسه و اختفى فيها، و محمد بن القاسم الصوفي، الزاهد الفقيه إمام (الزيدية) الذي ظهر أيام المعتصم في طالقان، و قبض عليه أبن طاهر و أنفذه إلى بغداد، فسجن فيها ثم فر فاخذ و قتل صبرا، و الشريف أحمد الصوفي الفاضل المصنف، و أبي عبد اللّه الحسين و الحسن الشاعر المحدث، و أبي محمد الحسن أو الحسين الناصر للحق الكبير الاطروش إمام الزيدية، صاحب الديلم و صاحب المقالة، و إليه تنسب الناصرية من الزيدية، ضرب ألف سوط فصم، و أبي علي الأديب الذي كان يذهب مذهب الإمامية و يهجو الزيدية، و يعاتب أباه بقصائد، و أبي محمد الحسن الناصر الصغير النقيب ببغداد، و الذي صح عندنا من نسب أم الشريف فاطمة، إنها بنت الناصر الصغير أبي محمد الحسن أو الحسين ابن أبي الحسن أحمد ابن

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 19

أبي محمد الحسين صاحب الديلم، ابن أبي الحسن العسكري ابن أبي محمد الحسن بن علي الأصغر المحدث ابن عمر الأشرف، و المتتبع يجد اضطرابا كثيرا في كتب التراجم و الرجال في نسبها و على ما ذكرنا من نسبها فخال الشريف، هو المكنى بأبي القاسم ناصر الملقب

بريقا، على ما ذكر في عمدة الطالب، و ظني أن تهمة الشريف بعقيدة الزيدية، نشأت من سببين:

الأول: من جهة أخواله الذين أغلبهم زيديون، و فيهم أئمة للزيدية و أصحاب مقالات فيها.

و الثاني: ما شحن به شعره من الحماس و المطالبة بالثأر و الدعوة إلى الخروج على الخلفاء و أرباب العروش في عصره كما يفعله أئمة الزيدية و شعراؤهم و رجالهم في أساليب خطبهم و شعرهم.

و في جده من أمه هذا يقول من قصيدة يهنئه فيها:

أرق المعالي التي أوفى أبوك بهافكم تناولها قوم بغير أب

إلى أن يقول:

كن كيف شئت فان المجد محتمل عنك المغافر في بث و في عقب

و منها:

يا ابن الذين إذا عدوا فضائلهم عدى الندى ضربهم في هامة النشب

و قال جامع ديوانه، في ترجمة هذه القصيدة، و قال رحمه اللّه يمدح خاله أبا الحسين أحمد بن الحسين الناصر، و قال في ترجمة القصيدة، التي يرثي بها والدته، و قال يرثي والدته فاطمة بنت الناصر، و أبو

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 20

الحسين هذا ليس بخاله إلا على ضرب من المجاز، و يخاطبه في القصيدة التي يرثي بها والدته:

آباؤك الغر الذين تفجّرت بهم ينابيع من النعماء

من ناصر للحق أو داع إلى سبل الهدى أو كاشف الغماء

نزلوا بعرعرة السنام من العلى و علوا على الأثباج و الأمطاء

و يتصل نسب الشريف من أبيه بالإمام موسى بن جعفر (عليه السّلام) و هو في طبقة القائم المهدي (عجل اللّه فرجه) و في آبائه و الأعمام الذين يتصل في سلسلة نسبه بهم بالإمام موسى بن جعفر (عليه السّلام) الشرف كل الشرف و الرتب الشامخة، و من توثبوا على عروش الخلفاء و امتشقوا الحسام في وجه سلطانهم و لقد كان الطالبيون في تلك

القرون و العهد القريب يتمثل لهم الحق الصريح في العرش الإسلامي و يشعرون بأنهم هم وراثه الشرعيون، و بدمائهم ربح المسلمون في صفقتهم و بسيوفهم تأسست الدولة الإسلامية، فما كانت تمر الفينة بعد الفينة، من الزمن إلا يقوم قائم منهم بالدعوة و ما أسرع ما تلتف حوله الجماهير و تناصره بالأنفس و الأنفس، و لهذا كانت النقابة من الضروريات في تشكيلات الدولة، و من وظائفها المهمة كما سنذكره.

الشريف: بحاشيتي نسبه من جهة الأب و الأم، يقبض على عضادتي الإمامة فهو ابن الإمامين علي بن الحسين و موسى بن جعفر عليهم السلام و من الأعمام و الحواشي يكرع بكؤوس الفخار و يتزمل مطارف الشرف و المعالي و قد أثر هذا النسب الوضاح في خياله و شعره

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 21

و تمشى في أدبه و أسبغ عليه حلة ضافية، فلا يستطيع أن يعمل قريحته في نظم قصائده مجردة عن تلك النعرة، و هو من هذه الجهة ظهرة علنة فاه لا يطيق الكتمان، و شعره أغلبه مطبوع بطابع ذلك الشعور الذي يساور قريحته و لا ينفك عنها و مصقول على غراره، و هذا ما نجده بين دفتي ديوان شعره فهو مملوء إلى حواشيه بالتماجد و الافتخار الذي يتجاوز حد المبالغة إلى أقصى أمد في الغلو، و لكثرة مزاولة قريحته ذلك برع في هذا الفن من الشعر و احتكر فيه سرير الأمارة.

و لما كان الشريف ممن فتنه المجد و صرعه الطموح إليه حسب أنه مما يفتتن به حتى الرشأ الشارد و الحبيب النافر فغازله ليغريه بما افتتن به و عرض له بأسمى ما يشعر به من لغات الفتوة و المجد في قصيدته:

لو علمت أي فتى ماجدذات اللّمى و

الشنب البارد

و منها:

أفلتنا ثمّ ثنى طرفه تلفت الظبى إلى الصائد

و في هذا البيت من رقيق المعنى و لطيف التشبيه ما لا يستنكفه الشريف من فروسية الصائد و روعة الحبيب و فزعه و اعتصامه بالنفور و ملاحظة المحاول ما تعدى الحد.

و منها:

ما أنا للعلياء إن لم يكن من ولدي ما كان من والدي

ثم تستدرجه ذكرى عليائه و يذهل عن موضعه و يطفح على لسانه ما أكنّه في قرارة نفسه من عزائمه و أمانيه فيقول:

و لا مشت بي الخيل إن لم أطأسرير هذا الأغلب الماجد

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 22

و يقول:

ما عذر من ضربت به أعراقه حتى بلغن إلى النبي محمد

إن لا يمدّ إلى المكارم باعه و ينال منقطع العلى و السؤدد

و يقول:

أخذنا عليهم بالنّبي و فاطم طلاع المساعي من مقام و منجدي

و طلنا بسبطي أحمد و وصيّه رقاب الورى من متهمين و منجدي

و حزنا عتيقا و هو غاية فخركم بمولد بنت القاسم بن محمد

و يقول مشيرا إلى ما أرهقه من حق مهتضم:

ردوا تراث محمد ردواليس القضيب لكم و لا البرد

هل عرفت فيكم كفاطمةأم هل لكم كمحمد جدّ

شرفوا بنا و لجدنا خلقواو هم صنائعنا إذا عدوا

و يقول:

قومي انوف بني معد و الذرى من واضح فيهم و من وضاح

ضربت بعرقي دوحة نبويةفي منصب وارى الزناد صراح

و يقول و هي أحسن ترجمة لأبيه:

ورثنا رسول اللّه علوي مجده و معظم ما ضمّ الصفا و المعرف

يريدون أن نلقي إليهم أكفناو من دمنا أيديهم الدهر تنطف

و هذا أبي الأدنى الذي تعرفونه مقدم المجد أول و مخلف

مؤلف ما بين الملوك إذا هفواو اشفوا على حز الرقاب و اشرفوا

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 23 له وقفات بالحجيج شهودهاإلى عقب الدنيا منى و المخيف

و يقول:

أنا

ابن الأولى أما دعوا يوم معرك أمدوا أنابيب القنا بالمعاصم

إذا نزلوا بالماحل استنبتوا الربى و كانوا نتاجا للبطون العقائم

و ما منهم إلّا امرؤ شب ناشئاعلى نمطي بيضاء من آل هاشم

فتى لم توركه الاماء و لم تكن أعاريبه مدخولة بالأعاجم

و يقول و قد أغرق في الغلو و المبالغة بالادلال و الأفتخار:

يظن المجتدي إناعلى الجود تواصينا

ملكنا مقطع الرزق فقرنا و اغنينا

و له من الفخر العصامي ما لا يقل عن فخره العظامي فمن ذلك قوله:

أحب خليلي الصفيين صارم و أطيب داري الخباء المطنب

لثامي غبار الخيل في كل غارةو ثوبي العوالي و الحديد المدرب

أنا السيف إلّا انني في معاشرأرى كل سيف فيهم لا يجرب

و يقول في القصيدة التي يمدح بها أباه:

مالي أخوف بالردى فاخافه هيهات لي في الخلق بعد عجائب

إنا آكلة المغتاب إن لم أجنهاشعواء يحضرها العقاب الغائب

و قوله أنا أكلة المغتاب من لطيف المجازات:

و مجاهل الفلوات أطيب منزل عندي و اوفي الواعدين نجائب

و مما يدلنا على أن فكرة التوثب و النهوض كانت تساوره منذ الصغر، و قوله و هو ابن عشر سنين:

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 24 المجد يعلم أن المجد من أربى و لو تماديت في غي و في لعب

و قال:

نهضت و قد قعدن بي الليالي فلا خيل أعن و لا ركاب

سأخطبها بحد السيف فعلاإذا لم يغن قول أو خطاب

و أخذها و ان رغمت أنوف مغالبة و إن زلت رقاب

و قال:

أراح بني عامر دلهم و عرضنا عزنا للتعب

و فزنا عليهم طريق البقاءو خلوا لنا عن طريق العطب

و هكذا تجد الشريف يتشمخ و يتباهى بخيمه و كوره و يضع نفسه في السلسلة الماجدة من آبائه التي اتصل فيها سبب الشرف، و أنجب فيها المجد. و قد اعتاد في شعره أن يستهل

قصائده بذكر الناقة و البيداء و صهوات الجياد و السيف و الدم و قعقعة الأسنة و نخوة الشوس البهاليل، ثم يعرج على التخلص إلى الغرض الذي انشئت له القصيدة كما يفعل الشعراء في استهلال قصائدهم، بالغزل و النسيب، و لا تكاد تستعرض الصفحة أو الصفحتين من ديوانه إلا و تجد تلك الروح المتحمسة الوثابة ماثلة بين عينيك.

قال أخوه المرتضى (رحمه اللّه) في مقدمة كتابه «الناصريات»:

و بعد: فان المسائل المنتزعة من فقه الناصر (رضي اللّه عنه) وصلت إلى أن يقول: و أنا بتشييد علوم هذا الفاضل البارع أحق و أولى، لأنه جدي من جهة والدتي، فهي فاطمة بنت أبي محمد (أبي الحسن خ) الحسن بن أحمد أبي الحسين صاحب جيش أبيه الناصر الكبير، أبي محمد الحسن

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 25

بن احمد بن الحسين بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن عمر بن علي السجاد زين العابدين بن الحسين السبط الشهيد بن أمير المؤمنين (عليه السّلام) (و في نسخة بعد قوله الكبير أبي محمد الحسين بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي السجاد (عليه السّلام) و الناصر كما تراه، من أرومتي و غصن من أغصان دوحتي، و هذا نسب عريق في الفضل و النجابة و الرئاسة. أما أبو محمد الحسن الملقب بالناصر ابن أبي الحسين أحمد الذي شاهدته و كاثرته، و كانت وفاته ببغداد سنة 368 ه. فانه كان خيرا فاضلا دينا نقي السيرة جميل النية حسن الأخلاق كريم النفس، و كان معظما مبجلا مقدما في أيام معز الدولة و غيرها. لجلالة نسبه و محله في نفسه، و لأنه كان ابن خالة بختيار عز الدولة. فان أبا الحسين أحمد والده تزوج

دير حجر (كذا) صحير (كذا خ ل) بنت سهلان كساء الديلمي و هي خالة بختيار و أخت زوجة معز الدولة. و لوالدته هذه بيت كبير في الديلم و شرف معروف. و ولى أبو محمد الناصر جدي الأدنى النقابة على العلويين بمدينة السلام عند اعتزال والدي رحمه اللّه لها سنة 362 ه. فأما أبو الحسين أحمد بن الحسن فانه كان صاحب جيش أبيه، و كان له فضل و شجاعة و نجابة و مقامات مشهورة يطول ذكرها. و أما أبو محمد الناصر الكبير و هو الحسين (الحسن خ ل) بن علي ففضله في علمه و زهده و فقهه أظهر من الشمس الباهرة، و هو الذي نشر الإسلام في الديلم، حتى اهتدوا به بعد الضلالة و عدلوا بدعاته عن الجهالة، و سيرته الجميلة أكثر من أن تحصى و أظهر من أن تخفى، و من أرادها أخذها من مظانها، فاما أبو الحسن علي بن الحسين، فانه كان عالما فاضلا. و أما الحسين بن علي،

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 26

فانه كان سيدا مقدما مشهورا لرئاسته. و أما علي بن عمر الأشرف فانه كان عالما، و قد روي الحديث. و أما عمر بن علي بن الحسين و لقبه الأشرف، فانه كان فخم السيادة جليل القدر و المنزلة في الدولتين معا الأموية و العباسية، و كان ذا علم. و قد روى عنه الحديث. و

روي أبو الجارود و زياد بن المنذر قالا: قيل لأبي جعفر (عليه السّلام) أي أخويك أحب إليك و أفضل فقال أما عبد اللّه فيدي التي أبطش بها. و كان عبد اللّه أخاه لأبيه و أمه، و أما عمر فبصري الذي أبصر به، و أما زيد فلساني الذي أنطق به.

و أما الحسين فحليم يمشي «عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً»

. انتهى كلام المرتضى. و قد نقلناه بطوله لما فيه من الفوائد التي تبصرنا بحالات الشريف النفسية.

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 27

وظائفه في الدولة و ألقابه

وظائفه

اشارة

النظر في أمور الطالبيين في جميع البلاد. نيابة الملك في مدينة السلام. الخلافة على الحرمين.

النقابة:

يدلنا التاريخ أن وظيفة النقابة في القرون الأخيرة من العهد العباسي كانت ضرورية في تشكيلات الحكومات الإسلامية، و لا بد منها لأجل سلامة الدولة.

من المعلوم أن انهيار العرش الأموي، كان نتيجة المؤامرات و الثورات المتتالية التي كان يدبرها الهاشميون تحت الستار.

و لما استقامت الدعوة و استتب لهم الأمر، و تنسم الهاشميون نسيم الحرية و شعرت شخصياتهم البارزة أن محاولة رد الحق المهتضم يمكن تحقيقها من ذلك الطريق، طمح من يرى أنه الأجدر و الأولى بالحكم، و من جهة أخرى كان العلويون على الأخص يتهضمون. لأن الأمر لم يرجع لمستقره، و ما كانت مناصرة الخراسانيين و الجماهير التي قامت في وجه الحكم الأموي إلا ولاء لهم و رغبة في خلاصهم، و السلطة العباسية كانت تشعر بذلك و تحسب له حسابه. فأعملت سلطانها و تدابيرها السرية و أنفقت جهدها في قمع تلك الروح العدائية العلوية و البطش بها. و ظني أن كلمة (زيدي) صارت لقبا لكل ثائر في وجه الحكم في الأدوار العباسية، و لمن يشايع الثوار و يناصرهم. لأن زيدا (رضي اللّه عنه) هو أعظم الثائرين من هذا القبيل، و المتبع و المقتدي

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 28

و خرجت كلمة (زيدي) عن كونها لقب نحلة و عقيدة حتى تسمى بها كل من ثار أو تحمس للثورة، و إن لم يكن زيديا يدين بهذه النحلة و يؤمن بها، كالشريف الرضي الذي ستقف على عقيدته.

و لما أنحل الحكم العباسي و استبد الأمراء و الملوك في أقطار الدولة، كان شرر الدعوة العلوية يتطاير و أشرافها يتواثبون على السلطان، و من جهة أخرى كان الناس

و ملوكهم يرون العلويين، الطبقة الممتازة التي لا يصح أن تشترك مع الجماهير في إقامة الحدود السياسية عليها، فكان من التدبير اللازم أن يترتب في ملاك وظائف الدولة وظيفة- النقابة- و يكون صاحبها ذا سلطة واسعة، و هي شبه حكومة في ضمن حكومة، لها أنظمة خاصة و قوانين استثنائية. و النقيب الذي يستخلف عليهم و يرعاهم و يتزعمهم، هو الذي يتصل ببلاط الدولة يتلقى أوامرها، و هو المسؤول عن أتباعه و القاهر لهم على النزول على مقدرات الحكم و يتولى تدبير شؤونهم و إحصاء نفوسهم و تطهير أنسابهم من الدخلاء، فلا تمس كرامتهم من ولاة الدولة و حكامها في إقامة العدل فيهم و التنكيل مما يخشى منه، و للنقيب تقدير خاص و رتب سامية، و تعظيم و احترام من ولي الأمر، و يقول ابن خلدون، في كلامه على بعض الوظائف:

(و كذا نقابة الأنساب التي يتوصل بها إلى الخلافة أو الحق إلى بيت المال) انتهى.

و يحدثنا ابن بطوطة بقوله: و نقيب الأشراف مقدم من ملك العراق، و مكانه عنده مكين و منزلة رفيعة، و له ترتيب الأمراء الكبار في سفره، و له الأعلام و الأطبال، و لقد سمى الظهير و المرسوم الذي يصدر من

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 29

السلطان في إسناد النقابة (اليرلغ). و جاء في كتاب «المصطلح الشريف» ذكر الشؤون التي يكلف بها النقيب و هي:

1- رفق بأولاد أمه و أبيه حيدرة و البتول (عليه السّلام).

2- كف من استطال بشرفه فمد إلى العناد يدا.

3- إزالة البدع التي ينسب إليها أهل الغلو في ولائهم، فيما يوجب الطعن على آبائهم، من افتراق ذات البين. و جر أقوام إلى مصارع البين فللشيعة عثرات لا تقال، فليسد هذا الباب

سد لبيب.

4- النكال بمن ادعى الاعتزال أو مال إلى الزيدية أو اقتفى طرق الإمامية فيما ابتدعوه، أو تمسك من عقائد الباطن بظاهر، أو تعلق بأئمة السر أو انتظر مقيما برضوى، أو ربط على السرداب فرسه أو اشترط العصمة في مطلق الأمام.

5- النظر في أمور أنسابهم نظرا لا يدع مجالا للريب.

و جاء في المنشور الصادر من ديوان الخلافة للمطيع للّه، بتقليد نقابة الطالبين لأبي أحمد الحسين والد الشريف بمدينة السلام و غيرها من الأمصار من تلك الشؤون:

1- أحترامهم و العطف عليهم.

2- من ارتكب منهم قبيحا يعود على ديانته بجرح، لا يعجل عليه بالنكال بل لا بد من عذله و إنذاره قبل ذلك، فان ارتدع و إلا أقيمت عليه الحدود.

3- أن يبث عليهم العيون و الأرصاد لينهوا إليه أبناءهم، ليكف من خرج عن الطاعة عن غيه.

4- مخاطبتهم بالاحترام.

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 30

5- حماية المناسب ثم المقابلة بغليظ العقوبة لمن ادعى نسبهم.

6- تولى استيفاء الحق منهم بإيعاز حكام المسلمين.

7- له أن يتخذ خلفاء عنه في الأقطار.

هذا شي ء من أحكام النقابة و قوانينها أثبتناه هنا للتعرف بشخصية الشريف و كرامته الاجتماعية، و فيه فوائد لا تخفى على اللبيب، و يعلم مما أثبتناه أن النقابة لا ينالها إلا الأكفاء من الطالبين النابغين، ذوي الدرجات الشامخة في العلم و القلم، و الأدب و النسب، و باقي مميزات التفوق، و لقد كان الشريف لا يرى أحدا أحق منه و من أبيه بها.

و كانت بينه و بين أخواله منافسات حول التزاحم عليها، و ربما كان ذلك من دسائس الخلفاء العباسيين تمسكا بمبدأ تلك الكلمة الخبيثة المأثورة (فرق تسد) و قد تحسدوا توليه و تولى أبيه لها، و من أجل ذلك كان يتذمر

منهم في شعره و يشنأهم بأن أشخاصهم لم يكونوا أهلا لمدائحه، و إذا مدحهم فأنما يمدح نسبه المتصل بأنسابهم، فمن ذلك قوله لأبي الحسين في آخر القصيدة التي يهنيه بها:

إذا مدحتك لم أمنن عليك به فالمدح باسمك و المعني به نسبي

و قد عتب عليه فاعتذر له بقصيدة اكثر فيها من مدائحه الشخصية مطلعها:

لك السوابق و الأوضاح و الغررو ناظر ما انطوى عن لحظه أثر

و لقد ولي النقابة والد الشريف ثم اعتزلها سنة 362 ه، فوليها أبو محمد الناصر، ثم أعيدت له ثم وليها أحمد العمري، نسبه إلى عمر الأشرف أحد أخوال أم الشريف، و ذلك مدة اعتقال والد الشريف بالقلعة بفارس، و هي عشرون سنة. و لما أفرج عنه و عاد ردت إليه. و لما

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 31

شاخ وليها الشريف نيابة عنه، و استقلالا بعد وفاته على أصح الروايات. و هو في ذلك تارة يستقيل عنها و أخرى ترجع إليه، و إذا وليها تشدد في إقامة الهيبة لها، و قد يضيق صدره منها لأنها دون حقه و فيها اصطناع، و منّة لمن أسندها إليه، و في ذلك يقول:

ولي أنف كأنف الليث يأبى شميمي للمذلة استيافي

إذا عد المناقب جاء بيتي يجر ذيول أحساب ضوافي

و يقول لما واصل الاستقالة عنها و اسندت لمن بذل عليها الأموال سنة 348 ه:

محمد طالما شمرت فيهافدونك فاسحب الذيل الرفلا

يراه المستعير عليّ طوقافيغبطني به و أراه غلا

و يروي لنا ابن أبي الحديد، إن أبا الشريف توفي و هو متقلدها، ثم أن الشريف تولاها بعد وفاته و اختلف في السنة التي تولاها نبابة عن أبيه هل هي سنة 388 ه أو سنة 380 ه؟ و يشهد لهذا القول الرواية الآتية

للسنة التي أنشد فيها حاجب الطائع قصيدة الشريف في مدحه.

و الذي ولي الشريف الطائع للّه، و أقام لذلك احتفالا خلع فيه على الشريف ايراد النقابة، و رتبة رتبة أبيه، و هي أشرف المراتب و كان أول طالبي جعل عليه السواد، و في ذلك يقول شاكرا:

الآن أعربت الظنون و علا على الشك اليقين

إلى أن قال:

و أضاء لي زمني و أيام الفتى بيض و جون

فافيضت الخلع السوادعلي ترشفها العيون

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 32

و كان صنيع الطائع هذا جزاء على قصيدته التي يمدحه بها و يتنجز وعده بالأذن في الوصول إلى حضرته، و التي أنشدها حاجب الطائع ابن عبد العزيز سنة 380 ه على ما روى، و التي مطلعها:

متى أنا قائم اعلى مقامي و لاق نور وجهك و السلام

و في سنة 397 ه أول يوم جمادي الأول بعث إليه بهاء الملك من البصرة إلى بغداد مرسوما بتولية النقابة و أمارة الحج.

و النقابة وظيفة في الدولة، لا تكتسب صفتها الرسمية ما لم تصدر بها إرادة ملكية من البلاط أو ممن يمثله و يخول له ذلك.

و كان الصاحب عميد الجيوش قد كلف الشريف في ذلك اليوم، النظر في تلك الأعمال و ألزمه بها في بغداد فقط- فكان ذلك اتفاقا غريبا. و قد ثقل ذلك على بهاء الدولة لما بلغه، لأنه كان يؤثر أن يكون هو المبتدي بالمنة و السابق للصنيعة. فكتب إليه الرضي يعتذر من قبولها من عميد الدولة من قبل أن يصل إليه ظهيره بذلك قصيدة مطلعها:

كيف أضاء البرق إذا ومضامنابت الرمث بذات الغضا

و منها:

قل لبهاء الملك إن جنته سود دهري بك ما بيضا

و قد حسده أعداؤه على تقلده للنقابة، و قلقوا لما جرى له من مراسم

التقليد. و لكن الشريف يراها دون حقه و لا تشبع مطامعه السياسية إلا الخلافة و في ذلك يقول:

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 33 قلق العدو و قد حظيت برتبةتعلو عن النظراء و الأمثال

لو كنت أقنع بالنقابة وحدهالغصصت حين بلغتها آمالي

لكن لي نفس تتوق إلى التي ما بعد أعلاها مقام عالي

ثم ان بهاء الدولة امر في يوم 16 من المحرم سنة 403 ه أن يضاف إلى أعمال الشريف، النظر في أمور الطالبيين في جميع البلاد. و يروي أنه لم يبلغ ذلك أحد من أهل هذا البيت. و اجتمع الناس في دار فخر الملك لاستماع الكتب الواردة بذلك، و في هذا يقول الشريف:

من بني ساسان أقنى ضرب حجر الملك عليه و السدد

ما رأينا كأبيه ناجلاولد الناس جميعا بولد

أن يكن تاجا و عضدا فأبنه درة التاج و دملوج العضد

يا معيد الماء في عودي و يامثبتي بعد اضطراب و أود

كلّ يوم لك نعمى غضةتعقد الفخر بأطواق جدد

و الشريف لا يرى أحدا أحق و أجدر منه بالنقابة و لكنه يزهد فيها، و تتوق نفسه لما هو أسمى منها، و إنما يتنازل لقبولها لأنها من حقوق أسرته، و في ذلك يقول:

قل للعدى موتوا بغيضكم فان الغيض مردي

و دعوا علا أحرزتهايا واد عين بطول جهدي

ولي النقابة خال أمي قبل ثمّ أبي وجدي

و وليتها طفلا فهل مجد يعدد مثل مجدي

و أظن نفسي سوف تحملني على الأمر الأشد

حتى أرى متملكا شرق العلى و الغرب وحدي

و في هذه الأبيات شواهد على تاريخ تولي النقابة أسرة الشريف تداولها، و متى تولاها الشريف نفسه.

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 34

إمارة الحج:

إن إمارة الحج سلطة مطلقة، و حكومة سيارة محدودة يتولاها أمير الحج بإرادة ملكية على حجاج أقطار معينة لا تتعداها، و ربما تتعدد

الأمراء في عام واحد لأقطار مختلفة.

و قد أحصى المسعودي في كتابه «مروج الذهب» أمراء الحج إلى زمانه. و الأمير حاكم مطلق في القضاء بين حجاجه و قطع خصوماتهم و في حلهم و ترحالهم و دفع الأخطار عنهم و إقامة العدل حسب مشيئته المطلقة فيما بينهم.

و لا بد من هذه الإمارة في تلك القرون، عندما يتقلص نفوذ الدولة و يفتر الحكم في البوادي القفار، و يتوغل الحجاج فيها و يتعرضون للأخطار. و الأمير زعيم مسؤول مزود بقوة مسلحة، و ذو كرامة شخصية واسعة، يعتصم بهما قطار السفرة عند الأصحار من الغزاة و المغيرين الذين يسدون المنافذ إلى بيت اللّه الحرام. و قد كان يصدر بها من ديوان الحكم مرسوم خاص للأمير ينهيه الملك و يمضيه الخليفة.

و قد جاء في المرسوم الذي قلد به أبو الشريف الرضي إمارة الحج، و كان من إنشاء (الصابي) قوله:

(فأنهى معز الدولة أبو الحسين أحسن اللّه حياطته أمر رفاق الحجيج الشاخصة من العراقين و ايثار تقليد تسييرها إلى الحرمين الاعتماد عليك في حمايتها و توليك الحرب و الأحداث فيها فوافق رأي معز الدولة أبي الحسين تولى اللّه كفايته الصواب و وقع عند أمير المؤمنين موقع القبول و الإيجاب فاستخار اللّه و أمضاه إلى أخره).

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 35

و في هذا المرسوم قلده إمارة حجيج مدينة السلام، و البصرة و الكوفة و ذكر له و جائب هي:

1- حياطتهم و رفاهيتهم في المسير.

2- المساواة بين ضعيفهم و قويهم و شريفهم و مشروفهم.

3- منعهم من الزحام و التجاذب و ذلك بترتيب قوافلهم.

4- صد أوائل القوافل عن التسرع و حواشيها عن مفارقة المنهج.

5- أن يكون مسير الأمير على الساقة لئلا ينقطع منقطع.

و قد روى المسعودي

في مروج الذهب، أن إبراهيم بن موسى بن جعفر (عليه السّلام) (الجد الأعلى للشريف) هو أول طالبي أقام للناس الحج في الإسلام. ثم قال: (على أنه قام متغلبا عليه، لا مولى من قبل خليفة). انتهى.

و قد ناقض بهذا قوله في أحوال المأمون: (أنه حج بالناس إبراهيم بن موسى بن جعفر أخو الرضى بأمر المأمون). انتهى.

و لا ريب أنه أراد بقوله أقام الحج أنه أمير الحج بقرينة قوله لا مولى من قبل الخليفة، و بقرينة ما ذكره في أحوال المأمون، و يمكن الجمع بين كلاميه بتكلف.

و يحدثنا ابن بطوطة، أن عند أمير الحج نواضح كثيرة لأبناء السبيل يستقون منها، و جمالا لحمل زاد الصدقة، و معه الأدوية و الأشربة و السكر لمن يصيبه مرض، و جمالا لمن لا قدرة له على المشي، و ان ذلك يكون من صدقات السلطان. و للركب و قطارهم أصول متبعة و أنظمة مرعية، و إرادة أميرهم فوق كل إرادة، و تحت لوائه العدة و العدد يدفع بها عادية الأعراب التي تهاجم قطاره للسلب و النهب.

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 36

و الشريف قد مارس إمارة الحج منذ صباه، تولاها في أغلب أعوام عمره وزيرا لأبيه، و نائبا عنه، و مستقلا فيها. و قد تذوق في ذلك منذ نشأ ما افتتنت به نفسه و خالط أعماقها من المطامع و المطامح السياسية.

و كانت هذه الأمارة تجربة و مثالا مصقولا مصغرا من تلك الرتبة السامية، و الشأن الإسلامي العظيم الذي يتوق إليه. و يرى أنه الأجدر به من أولئك المهتضمين المتطفلين، و قد أذكت في نفسه شعورا عميقا ملتهبا. فكان إذا رجع إلى بغداد و تطامن لأحكام السلاطين و الخلفاء، و انتقل من دور سيد

إلى مسود و من سلطان إلى رعية، أضجره الحال و يئس من ذلك و طفق يتذمر من عاصمة العباسيين، منقطع إمارته و منتهى تخومها فيقول سنة 324 ه:

مالي لا أرغب عن بلدةترغب في كثرة حسادي

ما الرزق بالكرخ مقيماو لا طوق العلى في جيد بغداد

و يحن إلى تلك البوادي و القفار التي يتلابس فيها مع السلطة و الأمارة، و التي فيها طوق العلى. و يتعشق مضارب أطنابها و مراتع غزلانها، و تطيب نفسه بذكرى تنسم نسمات أجوائها و مشاهدة أطلالها، و يستعرض فيها تاريخ الغابرين من أشياخه، و هي مغرس مجده و فيها مستنبت دوحة العلى، فكان يبدع في شعره عند ذكرى ذلك، و تفيض علينا قريحته بأرق ما نقرأ في ديوان شعره فيقول:

عارضا بي ركب الحجاز أسائله متى عهده بسكان سلع

فاتني أن أرى الديار بطرفي فلعلي أرى الديار بسمعي

و يقول:

يا قلب ما أنت من نجد و ساكنه حلفت نجدا وراء المدلج الساري

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 37 يا راكبان قفالي و اقضيا وطري و خبراني عن نجد بأخباري

أهل أبيت و دار عند كاظمةداري و سمار ذاك الحي أسماري

و يقول:

أراك ستحدث للقلب وجداإذا ما الضعائن ودعن نجدا

إذا أطلع الركب يممته أحي الوجوه كهولا و مردا

و أسألهم عن جنوب الحمى و عن أرض نجد و من حلّ نجدا

لنا من تعج الورى بأسمه إلى اللّه ندعوه في المجد جدا

بنا أنقذ اللّه هذا العريب حتى استقام إلى الدين فردا

و يقول:

خذي نفسي يا ريح من جانب الحمى فلاقي بها ليلا نسيم ربى نجد

شممت بنجد شيحة حاجريةفامطرتها دمعي و أفرشتها خدي

و يلتهب الوجد فيه فيذيب عاطفة الأسى في عاطفة الأسف و يمزج ما بينهما فيقول:

فلله ما أجمع المازمان و جمع لقلبي و المسجد

يضاع فينشد

قعب الغبوق و قلبي يضاع فلا ينشد

و يقول عند توجه الناس للحج سنة 400 ه:

أقول لركب رائحين لعلكم تحلون من بعدي العقيق اليمانيا

خذوا نظرة مني فلاقوا بها الحمى و نجدا و كثبان اللوى و المطاليا

و في طريق الحج معاطب و أهوال، و مخاوف و مقارعة أبطال، ففي سنة 389 ه حج الشريف فأعتقل في أثناء الطريق هو و المرتضى ابن البراج الطائي فافتديا من أموالهما بتسعة آلاف دينار. ذكر ذلك في كتاب إتحاف الورى.

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 38

و في الحجيج مطمع و سلب أموال و نشب، فهو مرعى الغزاة و أكلة القطاع، و فيه تروج سوق البسالة، و تغلو سلع التضحية و تنفق بضاعة الفتوة و تستمجد البطولة، فكان تردد الشريف في ذلك الطريق في أعوام كثيرة من عمره، يوجب أن تتولد في نفسه مزايا النخوة، و الذب عن كرامة المعاصم، و تزكو فيها الفحولة و خيلاء الشجعان، و ترتاح لعجيج الخيل تحمى الذمار من الذمائر، و تستنغم مطربة لاصطكاك القنا و وقع الحديد، و قد نفخت تلك الأحوال روحا في شعر الشريف و تيمته إلى مواقعتها، و ملأت ديوانه بوصفها، و صيرته بحق شاعر الحرب، شاعر النخوة، شاعر الفحولة، شاعر الحديد و الدم، و لو أردنا أن نورد شاهدا على ذلك من شعر الشريف لأوردنا شعره كله.

و لا تنكشف الكرب كلها في البوادي و القفار، و لا يستطيع السيف وحده أن يحمي القطار، بل لا بد من الموفاة بعد ذلك إلى المصانعات، و شد الصلات بالأمراء و السراة المالكين على نواصي البوادي، المتنفذين بأقوامهم في مجاهلها و المصرفين لمقدراتها، و لا بد للشريف أن يعمل هذا التدبير.

و مودته (لابن ليلى) كانت من هذه الناحية،

ثم اطردت و استدرجت الشريف إلى أن كان يفشي إليه بسرائره و أمانيه و خواطره و ما يجيش في نفسه و كان يقع ذلك في جو ملائم، و كأنما ظفر كل واحد منهما بصاحبه الذي لا يستغني عنه، و وزيره إلى الغاية التي يطمح إليها، فمن هذا الأعوان و الفرسان و لذاك الخلافة و السلطان و فيهما المزايا متوفرة.

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 39

و لقد وجدت دعوة الشريف في ابن ليلى تربة طيبة لأن تزكو فيها مطامعه و مطامحه و منبتا خصبا تنمو فيه. و سيتضح لك أن الشريف كان يقيم أمنيته على دعائم ثلاث:

مواهبه الشخصية، و ابن ليلى، و الصابي، و كل واحد منها يكمل به النقص من ناحية و هي عناصر نجاحه.

و (ابن ليلى) شخصية مجهولة، افتنت كما فتن الشريف بشخصيته.

و لكن متاعبي في التفتيش و الفحص عنه كاعتماد الشريف عليه، ما ربحنا منهما إلا الخسران.

(ابن ليلى) لا يعرفه المتتبع في أسفار الأدب و التاريخ، إلا في ديوان الشريف ففيه يعثر بطود من المجد أشم و يغرق في بحر من الجود خضم، و لا ريب أن في مدائح الشريف له مبالغة و خيال. و لكن واحد من المئة يكفينا لأن نعرف أن أبا العوام من شخصيات التاريخ العربي البارزة يرفعه الشريف بمدائحه حتى يضعه على هام العيوق، و يبكي لفقده حتى يندى الثرى بدموعه، و يتشوق إليه حتى لا يمر الكرى بأجفانه، و لا ريب أنه كان من سراة البوادي، و كان عظيما من عظمائها. و لو لم يكن عظيما بهذه الدرجة لما استفز خيال الشريف إلى هذا الحد، إلا أنه قد أطبقت عليه القرون و لم يحس به رجال التاريخ، و لطعه

النسيان من صفحات القفار.

و من الجائز أن تكون مودة الشريف له موروثة من أبيه، و قد تأسست لأبي الشريف مودات كثيرة لأقطاب البوادي في غدوه و رواحه بين الحجاز و العراق، و هاك ترجمة ابن ليلى من شعر

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 40

الشريف. ففي قصيدته التي يصف فيها سفره الى مكة يقول سنة 394 ه:

أخ لي إن أعيت عليّ مطالبي رمى لي أغراض المنى فأصابها

به خف عني ثقل فادحة النوى و حبب عندي نأيها و اغترابها

بعين ابن ليلى لا تداوي من القذى يريب أقاصى ركبه ما أرابها

و ابن ليلى هذا أبو العوام لقوله:

كأنك لم تفد بعويرضات أبا العوام فتيانا قطاطا

و من جعل الدليل له ابن ليلى فلن يخشى الضلال و لا الغلاطا

و لقوله في رثاه بأسلوب بدوي، يتناسب مع سمات ابن ليلى أبي العوام البدوية:

ما هاج من ذي طرب مخماص ليلى أبي العوام و القلاص

أين أبو العوام للعواصي يروضها و الخيل و الدلاص

قاد ابن ليلى قائد المعتاصي كان سياغي فغدا اغتصاصي

و ليس هو عميدا آخر يتحصن الشريف بنفوذه، و يستغله لدفع الأخطار و الفوز بالأماني، كان مثل ابن ليلى لهذه الشواهد التي أوردناها. إلا أن الذي في ديوان الشريف المطبوع في بيروت ما ينافي ذلك. فقد جاء في ترجمة الأبيات التي يقول فيها:

قل لأبي العوام مستدفعابه جماح القدر النازل

يا نجوة الخائف من دهره و يا ثقاف الخطل المائل

إنها أنشئت سنة 398 ه و جاء في ترجمة أبياته التي أولها:

تعيف الطير فأنبأ أنه أن ابن ليلى علقته علوق

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 41

إنها أنشئت سنة 393 ه في رثاء ابن ليلى البدوي، و يمكن أن ترتفع المنافاة إذا تركنا ظاهر الترجمة، إلا إنني لا أعتمد على هذه النسخة المطبوعة في بيروت،

فان فيها من الأخطاء في الطبع و الوضع شيئا كثيرا يضيق المجال عن إيراده، و ابن ليلى أبو العوام اسمه عمرو و لقوله في رثائه:

أداري المقلتين من ابن ليلى و يأبى دمعها إلا لجاجا

و أين لفارس الفرسان عمروإذا رزء من الحدثان فاجا

و ابن ليلى أبو العوام عمرو هذا هو من بني عامر ابن لوي، و قد قتله رجل من بني تميم لما دعا بني تميم لدعوة الشريف فخالفوه فرثاه بقصيدة هي من مختار ما يروى من شعره في الفن الذي يمتاز به شعر الشريف، و هو الرثاء و الحماسة:

لعمر الطير يوم ثوى ابن ليلى لقد عكفت على لحم كريم

و اقسم أن ثوبك يا ابن ليلى لمجموع على عرض سليم

أأرجو للحواضن كابن ليلى أحلت اذن على بطن عقيم

و كان الشريف يعتمد على ابن ليلى في البادية و هو جيشه المجهز، و يعتمد في العاصمة مستقر الحكم و السلطان على الصابي، و هو الذي يربأ له في دواوين، و يرشده في مداحض السياسة. و سأريك هنا شيئا من وجه الصلات بينهما.

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 42

الصابي و الشريف: أما أسباب المودة و موجبات الصلات ما بينهما فهي أمور:

1- مودة الصابي لوالد الشريف التي نشأ عليها الشريف.

2- علائق الصابي مع بختيار و ستعرف صلات الشريف مع بختيار.

3- الأدب و هو لحمة كلحمة النسب.

4- إن فحولة الشريف و كفاءئه و كرامته ولدت في نفس الصابي عقيدة فوز الشريف في محاولته الخطيرة و بهذا الفوز ضمان المستقبل.

5- خبرة الصابي و تجاربه رغبت الشريف أن يحصر اعتماده على ذلك الشيخ المجرب.

6- اتفاقهما على مقت العاهل العباسي و رئيس الدولة.

أن أبا إسحاق ممن حلب الدهر أشطره و ذاق حلوه و مره، و لابس خيره

و مارس شره، و رئس و رأس و خدم و خدم، و كان يحسن المعاشرة مع المسلمين، يصوم معهم شهر رمضان، و يحفظ القرآن حفظا يدور على طرف لسانه. ازدهرت أيامه في عهد المهلبي، فلما هلك اعتقل ثم أفرج عنه و أعيد عمله و لم يزل ينخفض و يرتفع حتى نكبه عضد الدولة بسبب ظهير أنشأه على الخليفة في شأن (بختيار) عز الدولة، و لما ملك عضد الدولة بغداد و سائر العراق دبر تدبيرا للفتك بأبي إسحاق، فأمره أن يألف كتابا في أخبار الدولة الديلمية فأمتثل الأمر و سمى كتابه «التاجي» و مكر له بخلق أسباب النكال لزلة يؤاخذه بها، فان الدولة لا يخلو تاريخها و تاريخ ملوكها عن مظالم و هفوات، و مساو و سيئات، إن أوردها أو لم يوردها فهو واقع في الفخ الذي دبر له، و ربما يكون منها ما هو في شأن رجال يرغب عضد الدولة ذكرهم بالسوء. و لكنه في

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 43

ذلك الوقت يعد ذلك جريمة من أبي إسحاق لا تغتفر، إلا أن الكيد و المكر اللذين خادعه بهما، لم يحتج إليهما في إرواء أحقاده من أبي إسحاق. فقد دخل عليه بعض من أصدقائه و هو في شغل شاغل بكتابه فسأله عما يعمل؟ فقال: «أباطيل أنمقها و أكاذيب ألفقها» و لعله قد أعجل بعضد الدولة حقده عليه فمكر به و أرسل إلى الصابي خائنا من أودائه يتهمه بهذه المقالة فلا يظن فيه أنه يتهمه بذلك، و لما سمعها عضد الدولة أمر به أن يوطأ أخفاف الفيلة، فشفع فيه رجال الديوان يقبلون الأرض من بين يديه، فعفا عنه و أمر بالقبض عليه، و استقصى أمواله و مصادرتها و

بقى في اعتقاله بضع سنين، ثم أفرج عنه و قد ساءت حاله.

أترى أن أبا إسحاق لم يكن من الناقمين على الدولة و الشانئين لمليك البلاط، و قد أفقده العدم و كبر السن أن يستعيد مقامه الأول.

و شخص مثل أبي إسحاق نشأ في أحضان الدولة و ملك ناصية أمرها، و بلغ أقصى درجة فيها. إذا خسر مقامه و طرد من ابوابها، لابد أن يتصل و يميل إلى من يرشح نفسه و يعدها و يستعد للتوثب عليها، و هدم عروشها و يرى أن من حقه سلطانها و هؤلاء جميعا لا بد أن يستكتلوا فئة و حزبا، و يتفاهموا عصابة و حربا، و لقد كان من أهم الأسباب للفتك بأبي إسحاق ممالأته لبختيار الذي كان كاتب إنشائه و كلمته في حقه، و بختيار هذا كما علمت، ابن خالة جد الشريف لأمه. الأمر الذي كان من أهم أسباب الصلة بين الشريف و الصابي منكوب عضد الدولة- الذي فتك ببختيار و جنوده كما هو معلوم في التاريخ- و أبو إسحاق أديب، يستهويه الخيال و يتحول في نفسه إلى حقيقة ماثلة، فكان

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 44

لحماس الشريف و نزعاته الخيالية مأخذ في نفسه يستضي ء به لنيل آماله و استعادة كرامته، و أبو إسحاق و إن كان متشددا في أصل الدين و لكنه يقيم بعض الشعائر الإسلامية، و له في ذلك غايات، و هذا من الملق الذي يحذقه أصحاب الملوك. كل ذلك شد مواثيق المودة ما بينهما، و ربما كان الشريف يطمع في إسلامه على يده، كما أسلم مهيار على يده، و بلغت مودة الشريف له أن يقول فيه، و لقد عرضت له زمانه صار يحمل لأجلها في محفة:

و لو أن

لي يوم على الدهر إمرةو كان لي العدوى على الحدثان

خلعت على عطفيك برد شبيبتي جوادا بعمري و اقتبال زماني

و حملت ثقل الشيب عنك مفارقي و ان فل من غربي و غض عناني

و هذه هي الغاية فيما يتمناه صديق لصديق و مما يفصح عن نوع الصلة التي بينها قول الصابي في حق الشريف:

أبا حسن لي في الرجال فراسةتعودت منها أن تقول فتصدقا

و قد خبرتني عنك أنك ماجدسترقى من العلياء أبعد مرتقى

فوفيتك التعظيم قبل أوانه و قلت أطالي اللّه للسيد البقا

و أضمرت منه لفظة لم أبح بهاإلى أن أرى أطلاقها لي مطلقا

و جواب الشريف له:

لان ابرقت مني مخايل عارض بعينك يقضي ان يجود و يغدقا

الى ان يقول:

أشاطرك العز الذي أستفيده بصفقة راض إن غنيت و أملقا

فتذهب بالشطر الذي كله غنى و أذهب بالشطر الذي كله شقا

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 45

و لما توفي أبو إسحاق سنة 384 رثاه بقصيدتة المشهورة التي مطلعها:

أرأيت من حملوا على الأعوادأرأيت كيف خبا ضياء النادي

قد كنت أهوى أن أشاطره الردى لكن أراد اللّه غير مرادي

الفضل ناسب بيننا إن لم يكن شرفي مناسبه و لا ميلادي

و للمرتضى هنا كلمة في حق الصابي معروفة.

والدة الشريف: و لوالدة الشريف البرزة الرزان التي كانت تقص عليه مآثر آبائها و ترضعه مع درها أماني النقابة و الخلافة، و تنفحه بالمال في ذلك السبيل، أثر في مودة الشريف للصابي (كاتب بختيار الدولة) التي تتصل معه بصلة رحم، و عدو عضد الدولة الذي فتك به، و السلطات الفردية من شأنها أن تعتمد المداهنات، و استغلال و شائك الشخصيات و استدراج السراة و الذوات، ثم من بعد ذلك تفترس الشعوب المحكومة لها و تشبع منها شهواتها. و على هذه الأسس الفردية تكون الخطوة

أو النكبة.

و لما توفيت سنة 385 ه جزع الشريف على وفاتها جزعا شديدا، و في قصيدته التي يرثيها بها ألماع لما ذكرنا، فمنها:

و من الممول لى إذا ضاقت يدو من المعلل لي من الأدواء

لو كان مثلك كلّ أم برةغنى البنون بها عن الآباء

آبائك الغر الذين تفجرت بهم ينابيع من النعماء

من ناصر للحق أو داع إلى سبل الهدى أو كاشف الغماء

نزلوا بعرعرة السنام من العلى و علوا على الأثباج و الإمطاء

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 46

رد المظالم:

كانت الخلفاء و الملوك تعد يوما خاصا تتفرغ فيه لرد المظالم، و يؤذن فيه لأهل الظلامات كافة برفع ظلاماتهم إليهم مباشرة. و ربما تستنيب شخصا يمثلها في ذلك، إذا صدها عن الحضور في ذلك اليوم عارض، و قد شبه ذلك بعض الكتاب في مجالس التمييز و الاستئناف و لا يفي هذا التشبيه ببيان الحقيقة فان الذي يعرض في ذلك اليوم كل ظلامة في خصومة أو في غيرها نظر فيها القضاة، أو لم ينظروا و لا يكون ذلك إلا في الحكومات الاستبدادية المطلقة. ثم تطور الشأن فكان ذلك وظيفة و تمثيلا دائميا و سميت (ولاية ديوان المظالم) و لا ينالها إلا ذوو الدرجات الرفيعة و المراتب الشامخة، و الأنساب العريقة في المجد مع طهارة وجدان، و نزاهة و عفة، و فقه واسع بجميع أحكام الأحوال الشخصية الشرعية. و قد تولاها الشريف سنة 388 ه هي و النقابة و أمارة الحج، على ما روى ابن خلكان. و يظهر من الحديث الذي ذكره أبو الحسين الصابي و ابنه غرس النعمة محمد في تاريخهما حول قول الشريف:

(ما مقامي على الهوان و عندي) الأبيات و الذي نقله ابن أبي الحديد، إن الذي ولاه ذلك هو القادر باللّه.

النظر في أمور الطالبيين في جميع البلاد أو نقابة النقباء

ذكرنا أن بهاء الدولة سنة 403 ه ولاه ذلك. و ان فخر الملك أقام في داره حفلة عامة لذلك، و تلى فيها مرسوم بهاء الدولة، و دعا الشريف نقيب النقباء. و لكنني لم أظفر بما يوضح لي حدود هذه الوظيفة. و لا ريب أنها نوع من النقابة بشكل أوسع، و لا علم أن إطلاق (نقيب النقباء) على الشريف من جهة أن صاحب هذه الوظيفة يلقب بذلك أو أن تلك تسمية عرفية تكريمية.

الشريف الرضي

(كاشف الغطاء)، ص: 47

نيابة الخلافة بمدينة السلام:

في سنة 388 ه قلده بهاء الدولة نيابة خلافته بمدينة السلام، و خلع عليه خلعا فاخرة.

ألقابه

الألقاب: الرضي ذو الحسبين. الشريف الجليل. الشريف الأجل. ذو المنقبتين.

الإنسان بطبيعته ميال إلى الزهو، تواق بفطرته إلى التفوق، شغف بكل ما يميزه على غيره، تلك غريزة ملاصقة للنفس كيفما تكيفت و حيثما وجدت، و لذلك ترى أن منح الألقاب و الرتب من العادات القديمة المنتشرة بين جميع الأمم و الشعوب أيا كان شكل حكومتها.

و طالما تزلف بها رجال الحكم لرعاياهم و استصنعوا بها، و استكان ذوو الألقاب لأولئك الذين منحوهم ما يخول لهم حق التشامخ على من كان عطلا منه. و الناس فيها فريقان، فمنهم من يراها زينة فارغة و مجدا باطلا و بهجة كذابة، و آخر يقول عنها إنها شارة شرف و شهادة نبل و دليل مروءة و رفعة. و قد تبادر فكر إلغاء الألقاب إلى رجال الثورة الفرنسية لأنها كثيرا ما كانت موضوع تجارة سافلة من مانحيها، و ذريعة للإعجاب و الغطرسة من نائليها. إلا انه لا ينكر أن بعض الأعمال الجلى لا يمكن إثابة من يقوم بها بغير الألقاب و الرتب، و قد تكون من بواعث النشاط. فلابد فيها من مراعاة الجدارة و ما الألقاب في الحقيقة إلا كمصباح يحمله الإنسان فيبدي عيوبه إن كان ناقصا و يظهر محاسنه إن كان كاملا. و قد لقب النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) بعض أصحابه (بذي الشهادتين).

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 48

و للألقاب شأن عظيم عند اليونان و الرومان و الفرس، و لا يزال هذا الشان عند الشعوب و الحكومات على اختلاف أنواعها حتى اليوم.

و على هذا جرت الحكومات الإسلامية في تقدير عظمائها باسداء الألقاب إليهم.

و لقد كان الشريف، ممن يحمل أسمى الألقاب التي يرمز بها إلى مقامه الفخم. فقد لقبه بهاء الدولة في سنة 388 ه (بالشريف الجليل) في واسط، و سيره إلى بغداد في موكب ملوكي. فلما وصل بمدينة السلام حدثت فتنة و شغب فيها، فرفع إلى بهاء الدولة بعض أعوانه و شاية عنه، فعتب على الشريف. فكتب إليه من بغداد قصيدة ينفي فيها ذلك منها:

ملك الملوك نداء ذي شجن لو شئت لم يعتب على الزمن

إن كان لي ذنب فلا نظرت عيني و لا سمعت أذن أذني

و قوله:

أنا عبد أنعمك التي نشطت أملي و انهض عزمها أملي

و في هذا البيت تصاغر من الشريف قلما نجده في ديوانه، إلا أن للظروف أحكاما. و في سنة 401 ه أمر قوام الدين الملك أن تكون مكاتبة الشريف بعنوان (الشريف الأجل) مضافا إلى مخاطبته بالكنية، بعد أن كان يتجاهل بالشريف الجليل، ابتداء من غير استدعاء. و قد شكره الشريف بمستهله بقوله:

ثورتها تنتعل الظلامالا نقو أبقين و لا سلاما

و في سنة 392 ه صدر مرسوم من واسط بتلقيبه (بذي المنقبتين) و في سنة 398 ه لقبه بهاء الدولة (بالرضي ذي الحسين) و قد شكره بمستهله بقوله:

يد في قائم العضب فما الأنظار بالضرب

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 49

عقيدته من شعره

كتب التاريخ و معاجم التراجم و أسفار الأدب و طبقات الكتاب و الأدباء و العلماء، طبقة طبقة من عصرنا هذا إلى عصر الشريف مطبقة و متفقة، على أنه شيعي إمامي و قد يند شاذ فيبرم رأيا في عقيدة الشريف إن هو إلا كخاطر تاريخي خاص أشبه بالتهمة و النبز، فيدعي أنه كان زيديا أو أشعريا و قد ذكرنا سبب نسبته إلى العقيدة الزيدية فيما مضى من

هذه الترجمة.

و للشيعي الإمامي عقيدة ينقطع فيها عن الطوائف الإسلامية كافة و ينفصل بها عن سائر فرقها و هي تستقيم في حدين، مبدأ الإمامة و منتهاها و هما أن أبا الحسن عليا (عليه السّلام) هو الخليفة بعد رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) بلا فصل بنصه، و إن ابن الحسن (عليه السّلام) بشخصه هو القائم المنتظر و الإمام الثاني عشر الذي يكون الشريف في طبقته في سلسلة نسبه العلوي و هذه العقيدة يفصح عنها الشريف بجلاء في شعره فيقول من قصيدته يرثي بها الحسين (عليه السّلام):

معشر منهم رسول اللّه و الكاشف للكرب إذا الكرب عرى

صهره الباذل عنه نفسه و حسام اللّه في يوم الوغى

ثم سبطاه الشهيدان فذابحسا السم و هذا بالظبى

و علي و ابنه الباقرو الصادق و موسى و الرضا

و علي و أبوه و ابنه و الذي ينتظر القوم غدا

نزل الدين عليكم بينكم و تخطى الناس طرا و طوى

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 50

و قد مر عليك قوله: (أخذنا عليهم بالنبي و فاطم) و قال يتلهف لذكرى الأئمة الأثني عشر، و يعد المواضع و المراقد المشرفة بهم و يشير إلى ما اختص الشيعة بالاعتقاد به و بروايته من كرامات أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عليه السّلام):

سقى اللّه المدينة من محل لباب الماء و التطف العذاب

و جاد على البقيع و ساكنيه رخي الذيل ملأن الوطاب

و أعلام الغري و ما استباحت معالمها من الحسب اللباب

و قبرا بالطفوف يضم شلواقضى ضما إلى برد الشراب

و سامرا و بغداد و طوساهطول الودق منخرق العباب

ثم لا يكتفي بما أجمل فيه الإشارة من قوله (و بغداد) حتى يفصح بما هو أصرح فيقول:

و لي قبران بالزوراء أشفى بقربهما نزاع و اكتنآبي

قسيم النار جدي حين يلقى به

باب النجاة من العذاب

و من سمحت بخاتمه يمين تضن بكل عاليه الكعاب

و ساقي الخلق و المهجات حرى و فاتحة الصراط إلى الحساب

و قوله:

و أبي الذي حصد الرقاب بسيفه في كل يوم تصادم و نطاح

ردت الشمس بحدث ضوؤهاصبحا على بعد من الإصباح

و أمثال هذا كثير في شعره و الغريب إني ما وجدت للشريف شعرا يذكر فيه فدك، و لا يمرها بخياله في المواضع التي يتناسب ذكرها معها، و هي الحادثة الأولى من نوعها التي أذكت نار الحماس في قلوب

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 51

الطالبين، و الشق الأول في بناء الهيكل الإسلامي، كما أنه لم يمس الشيخين بسوء، و لم يتطاول على كرامتهما و لا فرضهما ممن مالا أو مالئا على البيت الهاشمي، على كثرة ما يسمعنا من مظالم آبائه و اهتضام حقوقهم. بل كان يفتخر بالمشاركة في مجد أحدهما، و قد مر ذلك. فهل كان الشريف يرى أن الإمامة أمر و الخلافة شأن آخر، و قد يقوم بأعبائهما شخصان فهذا إمام للناس من اللّه تعالى، و ذلك خليفة من الناس لرسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) و يجتمعان في زمان واحد و قد يكونان لشخص واحد، فهو الخليفة و الإمام الآلهي؟ و هل هذا رأي في حل المشكلة الإسلامية التي ما زالت و لن تزال يفتتن بها المسلمون و تنشق عليها عصاهم ...؟ و هل كان في استفتاء الشيخين عليا في بعض ما يرد عليهما من معضلات المسائل الدينية ما يؤيد هذه النظرية؟ و هل كان كل واحد من هؤلاء الخلفاء يعتقد في صاحبه ما ذكرناه؟ و هل كان اختلاف المذاهب، حنفي، مالكي، حنبلي، شافعي، جعفري، إلا من جهة اختلاف الرأي و الرواية مع

الشك و الجزم بما يراه و ترويه الفئة الأخرى؟ و هل يمكننا أن نتخذ هذا المبدأ دستورا و أداة نوحد بها شتات المسلمين و نجمع عليها عناصرهم عند أشد ما يحتاجون إلى الوفاق، و أنكى ما يسامون به من الافتراق؟ للجواب على ذلك موضع آخر ...

إلا أن الشريف لا يدع للأمويين عظما إلا هشمه و لا ذما إلا ألصقه، و إذا ذكرهم مزج الدمع بالدم، و الأسى بالأسف، فهو ألب عليهم من الناصية إلى الأخمص، و هم ثاره من الألف إلى الياء. و ليس كذلك العباسيون فهو يتراوح في ذمهم و مدحهم، على نسبة إيفاء الحق

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 52

و استيفائه و قضائه و اقتضائه بشأنهم و الشأن الديني بالدرجة الثانية، من العتب و التحدي و المطاولة. و إنما المسألة مسألة الدم المسفوك و العرض المهتوك، و السلب و الاستباحة و المدافعة و المناكفة في الحكم و السلطان، و الغيرة للرحم و العصبية للأباء و الأقوام.

و في شعر الشريف، في مدائح بعض الخلفاء العباسيين ما أشرب روحا دينية، و وضع فيه الخليفة موضعا مقدسا و استوفى فيه الحمد و المدح، إلى الحد الذي يعتقده الإمامية في أئمتهم، و ما هو من المطبوع بتلك اللهجة التي لا يقابل بها إلا المتبوع الشرعي، و العميد في الخلافة.

و لعل الشريف في ذلك كان قد طبق نظرية انفصال الإمامة عن الخلافة المشروعة، و السلطة الدينية عن السلطة الزمنية، أو راعى فيه ما يعتقده الجماهير و العامة، أو هو من قبيل مدائحه التي يصف الشريف فيها نفسه بقوله:

أهذب في مدح الرجال خواطري فأصدق في حسن المعاني و أكذب

و ما المدح إلا في النبيّ و آله يرام و بعض القول ما يتجنب

فمن ذلك قوله في الطائع:

هيهات طاعتك النجاة و حسبك التقوى و شكرك أفضل الأقسام

و من ذلك قوله:

للّه ثمّ لك المحل الأعظم و إليك ينتسب العلاء الأقدم

و لك التراث من النبيّ محمدو البيت و الحجر العظيم و زمزم

و من ذلك قوله:

فلأنت أولى بالإمامة و الهدى و أذبّ عن ولد النبي المرسل

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 53

و قد جمع الشريف من أصول العقيدة الشيعية: التوحيد، العدل، النبوة و الأمامة في قوله:

أصبحت لا أرجو و لا أبتغي فضلا و لي فضل هو الفضل

جدّي نبيّ و إمامي أبي و رايتي التوحيد و العدل

و يحدثنا الشريف عن اعتقاده في كتاب «حقائق التأويل» أنه لم يكن يتطامن للعقيدة تقليدا، و يتخذها اتباعا، و أنه ربما مر عليه الزمن الطويل و هو شاك تتضارب لديه الحجج و تتنافى عنده الأدلة، و قد يجزم فيعدل حتى تستقر في موضعها من نفسه عقيدته التي لا شك عنده فيها و لا تردد قال:

(و لا عيب على جامع مثل هذا الكتاب البعيد الأطراف المحتاج إلى فضلات من مدد الزمان، أن تقرر فيه مذاهب كانت مترجحة، و تطمئن آراء كانت قلقة على حسب تأثير الزمان الأطول في جلاء الشبهة و حل عقود الأمر المشتبهة، و استدراك فوائت الأدلة و استثارة كوامن الرأي و الرواية. و من ذلك ما يمر بقارئ صدور كتابنا هذا من كلامنا الذي يدل على ميلنا إلى القول بالارجاء، ثم ما يمضي به في أوساطه و أثباجه من الكلام الدال على تحقيق القول بالوعيد، قاطعين به و عاقدين عليه.

و إنما كان السبب في تباين هذين القولين سالفا و خالفا، و سابقا و لاحقا تفرع شبه و شكوك ما زال الزمن بمماطلته يرجئ حسيرها و يسهل

و عورها، حتى أسرع حابسها و انقاد متقاعسها بلطف اللّه و توفيقه و معونته و تسديده). انتهى.

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 54

مزاياه و غرائزه

توفي الشريف و هو ابن سبع و أربعين، توفي و هو على أبواب الكهولة لم توهن مننه الشيخوخة، و لا أطفأ لهبه الهرم، و انطوى عمره و هو في أدوار الشباب. و للشباب نزعات و للشباب ميول و مجازفات.

فكانت تلك الروح تترقرق في سائر مظاهره النفسية. و الغرائز و الملكات لها اتجاهات و انفعالات مختلفة على نسبة اختلاف أدوار الحياة في المضاء و الأنفاذ، فأن الأخلاق تهرم بهرم الأبدان، فالحفاظ العجوز و الشهامة و الأنفة و الوفاء و الأباء إذا هرمن لا يشبهن أنفسهن، و هن في دور الشبيبة. فلقد كان الشريف شابا في جميع مزاياه و غرائزه. و فيما تقرأه من صور حياته في هذه الترجمة تعرف جميع مزاياه و ملكاته، و ما نثبته في هذا الفصل أشبه ما يكون بتلخيص لذلك التفصيل.

لقد كان الشريف أبيا أنفا غيورا، ذا عفاف و حفاظ طموحا للمعالي، ففي ديوان أخيه المرتضى من شعره قوله:

لقد كنت أبغي رتبة بعد رتبةفآنف من أني أفوز بها وحدي

حفاظا على القربى الروم و غيرةعلى الحسب الداني و بقيا على المجد

لم يدنسه مأثم و لم يكن زهده في الدنيا و نكفه عن الترف و الترهل من قبيل الرهبنة و التبتل، و إنما كان يعمد لذلك لينطلق من ميعان الحضارة و يطبع نفسه على الجلد و يحملها على القناعة بشظف العيش، حتى تهون عليه موارد المهالك و أعنات الخطوب. و كان يكره الخلاعة و الخلعاء و المجانين، و لا تطاوعه نفسه على التزلف، و يسمت سمت الماجدين السراة و خلة الوفاء.

و عزة النفس أظهر مزايا الشريف و أقواها في نفسه، أما شواهد عزة نفسه فلا تحصيها هذه الوريقات،

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 55

فلقد انطبع على هذه الخلة منذ كان غلاما و يافعا حتى أورده المنون قعر الرجم، فقد كان يترفع عن الصلات له و لخاصته مهما كان المانح، حتى و لو كان أباه و لا يقبلها و لو ملك بها ناصية اليسار، و وقائعه و قضاياه في ذلك معروفة مشهورة. و هو و في مهما كلفه الأمر من تضحية. يلبي داعي الوفاء للوفاء، فلا يبالي في سبيل ذلك بطشة الجبار و لا سوط المتأمر و لا يتعمده للخطوة و نيل الأماني، فقد توجع لخلع (الطائع) و هو طريد (بهاء الدولة) و مفجوع غضبه في المستهلة بقوله:

إن كان ذاك الطود خرفبعد ما استعلى طويلا

ثم يرثيه يوم توفى في الإعتقال بعد جدع أنفه و أذنيه بقصيدته التي مطلعها:

ما بعد يومك ما يسلو به السالي و مثل يومك لم يخطر على بالي

و ليس من أغراض الشريف في توجعه و رثائه أن يستشير نخوة (القادر باللّه) ليوفي له حقه، كما وفاه له الطائع.

و إن كانت مدائحه للطائع أغلبها مما ينسجم في مدح (القادر باللّه) فان القادر باللّه من ذلك المعشر الذي يقول فيهم الشريف في مدحه للطائع:

من معشر ركبوا الفلاو أبوا عن الكرم النزولا

كرموا فروعا بعدماطابوا و قد عجموا أصولا

فهي مما لا يتبرم به القادر باللّه أضف إلى ذلك أن القادر لم يكن مخاصما للطائع و لا مدافعا له، و لا يعد تسليم الأمر إليه بأمر بهاء الدولة معروفا في حقه. فان الخلافة حقهم و بهاء الدولة مسيطر باغ قد اغتصب منهم سلطان الخلافة، و ترك لهم

شكلها و أسماءها. و أيضا فليس مراثي الشريف له و لغيره شواهد على الوفاء فان الشاعر في رثائه إذا كان

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 56

مندفعا فيه عن شعور نفسي ربما يكون لخيبة أمانيه في فقد من عقد عليه ادراكها و قد يكون لشعور بعظم النكبة على العموم، و قد يكون لتأثر من خصوصيات المصاب و فظاعته، أو لعاطفة أخرى لا لمحض الوفاء.

فلا أرى أن الرثاء من مظاهر الوفاء إلا أنه قد يكون و لكن هذا لا يظن بحق الشريف مع الطائع، فان للشريف عليه لوعة حارة مطردة في جميع شعره من حين وقوع النكبة عليه سنة 381 ه إلى حين وفاته في الاعتقال سنة 393 ه، و كما يقول (الدكتور زكي) لا ينظمه رجل متظرف و لا متكلف و إنما ينظمها رجل محزون.

و بعد فلا شك أن شعر الشريف في حق الطائع من الوفاء و من قبيل التضحية في سبيله لأنه موقف يعرض صاحبه للخطر من المسيطرين الذين فتكوا بالطائع، فما يدريك أن بهاء الدولة أراد أن يشعر القادر باللّه عن طريق شعر الشريف دهاء في السياسة- أن البأس الذي فتك بالطائع لا يزال و هو لك (بالمرصاد) و لا ينجيك منه إلا الإخلاص.

و كان مدح الشريف للطائع استيفاء للتعمية و صيانة للسر الذي أمن به الشريف من الخطر، و أحسن ما يعرف به وفاء الشريف ما تمناه لنفسه في قصيدته التي يجيب بها الصابي، و قد تقدم بعض أبياتها، فيقول:

و لو أن لي يوما على الدهر أمرةو كانت لي العدوى على الحدثان

خلعت على عطفيك برد شبيبتي.........

و حملت ثقل الشيب عنك مفارقي.........

و نابت طويلا عنك في كل عارض.........

على أنه ما انفل

من كان دونه حميم يرامي عن يد و لساني

حفيظ إذا ما ضيع المرء قومه و في إذا ما خون العضدان

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 57

علمه و أدبه و شعره

إن من الذين ترجموا الشريف من كان في أعلام الكتاب كأبن أبي الحديد، و الخطيب البغدادي (الذي يتحفظ في كتابه في ايراد النعوت و المزايا)، و الثعالبي في كتابه «يتيمية الدهر»، و فيما كتبه هؤلاء عنه كفاية، و المترجمون له غيرهم كثيرون، و هنا نأتي على خلاصة ما أوردوه:

(كان الشريف عالما، أديبا، شاعرا، مفلقا، فصيح النظم ضخم الألفاظ، متصرفا في فنون القريض. إن قصد الرقة في النسيب أتى بالعجب العجاب، و إن أراد الفخامة و جزالة الألفاظ في المدح و غيره أتى بما لا يشق له غبار، و إن قصد المراثي جاء سابقا و الشعراء منقطع أنفاسها. إبتدأ يقول الشعر بعد أن جاوز العشر سنين بقليل. و روى عن (ابن محفوظ) شهادة جماعة من أهل العلم و الأدب بأنه أشعر قريش.

و ضم ابن محفوظ رأيه إليهم فقال هذا صحيح، و يشهد لذلك شعره العالي القدح، الممتنع عن القدح الذي يجمع إلى السلاسة متانة و إلى السهولة رصانة، و يشتمل على معان يقرب جناها و يبعد مداها، و كان مع هذا مترسلا ذا كتابة قوية و أدب ظاهر، و فضل باهر و حظ من جميع المحاسن وافر). (انتهى) و لقد كان للشريف مطامع و أهواء في الملك و السياسة و هو ممن يقال فيهم أنه لا ينام إلا على سر مبيت، أو غرض دفين، و ذلك مما يشحذ القريحة و يكدها كأداة يتصل فيها بأحلامه الجميلة و الأدباء الذين يتلابسون مع الملوك و يتصلون فيها اتصال استغلال و استثمار في جهات

الشريف الرضي

(كاشف الغطاء)، ص: 58

الحكم و السلطان يتسع خيالهم و تخلق لهم تلك الظروف أدبا ساميا عليه رونق من ابهة التاج و حشمة الملوك. فكان الشريف يتعمد فيما ينشأه من نظم و نثر، أن يحشوه بأوابد الألفاظ و شواردها، و يعجم في الاشتقاق و يسبك ذلك في قوالب البداوة و الغرابة.

و يستطرد بهذه المناسبة ذكر رأي في تدوين اللغة العربية طالما تردد في البال- لقد فات على أرباب معاجم اللغة الذين قيدوا شواردها و قيدوا أوابدها أخذا من الحفظة و النقلة أو من العرب مباشرة، أن يشيروا في معاجمهم إلى اللهجات و اللغات العربية المختلفة فينسبوا كل لفظة إلى القطر أو الشعب التي تستعمل فيه، و ينسقوا معاجمهم إلى أبواب و فصول، يختص كل واحد منها بالشعب أو القطر الذي تكون تلك الألفاظ مختصة به و منسوبة إليه، ثم يجمعوا للألفاظ الفاشية المستعملة عند سائر الشعوب العربية في فصل مستقل.

و إن اشير إلى ذكر شي ء من ذلك في كتب التفسير، كقولهم إن ذلك نزل (على لغة كذا) و في كتب اللغة كقولهم في المأثور (ليس من أمبر أمصيام في أمسفر) أنه وارد على لغة حمير، و غير ذلك مما نجده مما نجده مبثوثا في زوايا معاجم اللغة إلا إن ذلك في الحقيقة لا يفي بالمرام. قد لا يعترني ريب إن قلت أن الأدباء الذين حفظوا العربية الفصحى من تلك المعاجم، لو يكتب فصل من نثرهم أو قصيدة من شعرهم لتقرأ على أي عربي كان فانه لا يستطيع أن يفقه ما اشتملت عليه من الألفاظ الغريبة ذلك لأن العربية الفصحاء تختلف و تتباين بلهجاتها كما تختلف اللغة الدارجة. فالذين أخذوا العربية من هذه المعاجم كالشريف لا

الشريف الرضي

(كاشف الغطاء)، ص: 59

يستطيعون أن يفهموا عربيا إذا خاطبوه بها، و هذا نقص في فقه لغتنا كان الواجب تداركه و لكنه ضاع، و ضاع إلى الأبد. لقد ذاع صيت الشريف في الشعر، و اهتم الأدباء في جمعه و شرحه. قيل و لم يكن اشتهاره بالشعر إلا لكونه أجاد به تمام الإجادة، و إلا فهو في العلم على جانب عظيم. و قد أنفذ الصاحب إلى بغداد من ينسخ له ديوانه، و كتب إليه بذلك سنة 385 ه فمدحه الشريف بقصيدة منها:

بيني و بينك جرمتان تلاقيانثري الذي بك يقتدي و قصيدي

إن أهد أشعاري إليك فانه كالسرد أعرضه على داود

و يظهر من هذا أن له أسلوبا في النثر و الكتابة، هو من طراز ما يحسنه الصاحب منها. و كيف يشك في عد الشريف في زمرة الكتاب و أمراء البيان و هذا تفسيره «حقائق التأويل» الذي يصوغ جمله و فصوله بذلك الأسلوب الفخم البليغ، و يظهر فيه مقدرة فنية في النثر، بها يستطيع أن يوافينا ببيان المسائل العلمية بأسلوب إنشائي بليغ، الأمر الذي لا يستطيعه إلا من بلغ الغاية في البلاغة. و قد راقت ابن جني.

مرثيته لأبي طاهر إبراهيم ابن ناصر الدولة التي مطلعها:

ألقى السلاح ربيعة ابن نزارأردى الردى بقريعك المغوار

فشرحها و فسر ألفاظها و مدحه الشريف لذلك. و في مكتبتنا و ريقات بالية أظنها من ذلك الشرح. و لقد شغفت تقية بنت سيف الدولة بشعر الرضي و افتتنت به، و كانت من أفاضل نساء قومها. فالتمست انتساخ نسخة من ديوانه على التمام فنسخ لها و أرسل إليها من العراق.

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 60

و لم يشتهر الشريف في النثر اشتهاره في الشعر و لعله لعدم إكثاره فيه،

و لم يترام إلينا من نثره غير ما نقرأه في أثناء مؤلفاته التي بأيدينا، و قد روى له في «الدرجات الرفيعة» عدة رسائل ليست هي من أسلوب ما قرأناه من المؤلفات في البلاغة.

و الشريف إذا نعى ورثى أبدع و أغرب، فإذا عضت النكبة حسبه أو نسبه كان كمستودع غاز مسته النار، فلهذا كانت مراثيه في الحسين (عليه السّلام) جده و أمامه، و شهيد أعداء أسرته، و من لا يخشى عادية الخلفاء العباسيين و لا ملوك عصره أن يقول فيه ما شاء لسانه و خياله، غاية في الإجادة و نهاية في استدراج العاطفة، و مراثيه فيه (عليه السّلام) كثيرة و لا يسالم الشريف أحدا من آل حرب إلا ابن عبد العزيز، كوفاء له على صنيعه، و شكر على تكرمه و لا يبالي أن يخرج مدحه بذم سلفه و ولاته بعداء آبائه، و لا يستوفي الشكر له بالبكاء عليه لأنه من بني أمية فيقول:

يا ابن عبد العزيز لو بكت العين فتى من أمية لبكيتك

غير أني أقول أنك قد طبت و ان لم يطب و لم يزك بيتك

أنت نزهتنا عن السب و الشتم فلو أمكن الجزاء جزيتك

دير سمعان لا غدتك الغوادي خير ميت من آل مروان ميتك

و عجيب أني قليت بني مروان طرا و أني ما قليتك

و قد روي عن الصادق (عليه السّلام) أنه قال: (كان العبد الصالح أبو حفص يهدي إلينا الدراهم و الدنانير في رقاق من العسل خوفا من أهل بيته).

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 61

العلم في القرون الإسلامية الأول

إن القرون الإسلامية الثلاثة الأول يعني بالعلم فيها دراسة القرآن و النظر في معانيه، و شرح ألفاظه و تفاسيره و ضبط قرآءاته و قصصه، و معرفة ناسخه و منسوخه، و استفادة الآراء و العقائد

و الأحكام الفقهية منه، و الاحتجاج بآياته، إلى غير ذلك من العلوم القرآنية مما يخص الأدب و الفلسفة و الأحكام. و لقد كان هو محور العلوم الإسلامية و منارها. و إذا استعرضنا مؤلفات تلك القرون و استقرأناها، وجدنا تلك المؤلفات لأقطاب العلم المشاهير و ما فيها من علوم تحول حول هذه النقطة و هي القرآن و تنشق من معدنها، فالقرآن و ما ينشق منه من المعارف هو الكل في الكل. و قد يكون أول علم إسلامي أخذ من القرآن و انشق منه هو الفقه، ثم العقائد و البلاغة و علوم و الأدب و التاريخ. و اختلف المفسرون في وضع تفاسيرهم لاختلاف وجهات نظرهم و مقدرتهم، في الأدب و الفلسفة و الأحكام، و تفاوت قرائحهم في هذه الفنون، أما الشعر و الكتابة فهي لا تنسجم في تلك العلوم من حيث أن مصدرها لم يكن القرآن. و الشريف عالم من ذلك القبيل أي من نوع يسمى عالما في تلك القرون، فقد استظهر علوم القرآن و برع فيها، و أحاط بدقائقها و استنتج العقائد الدينية منها، و درس الفقه الإسلامي كعلم من علوم القرآن و لم يتخصص فيه. و وضع تفسيره «حقائق التأويل» المؤلف الواسع الذي بلغ الغاية في الإجادة، و الذي كان ضياع القسم الأغلب منه خسارة على الثقافة العربية عظمى، و يكفينا من معرفة مقدرة الشريف العلمية الواسعة ذلك الجزء الذي

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 62

ظفرنا به من أجزاء تفسيره، فمنه نعرف أن الشريف أمام في اللغة واسع الإطلاع. و جدلي كلامي بارع، و فقيه ماهر و بصير في التأريخ و مشارك في الفلسفة و أستاذ في الأدب قدير. و سنعد لك مؤلفاته، و هي تبصرنا

بدرجاته العلمية. أما فقاهة الشريف فالحديث الآتي يوضح لنا بجلاء ماهيتها.

الفقه الإسلامي

لقد كان الفقه الإسلامي في تلك الحقبة من الزمن التي كان الشريف يتلقى علومه فيها، قد وضع عند فقهاء الجمهور على منهج علمي على حد سائر العلوم. و له مؤلفات مقررة تدرس و أساتذة اختصاصيون. و لم يكن الفقه الجعفري الأمامي مثله، إنما أحكامه التي ينفرد بها و مسائله التي ينفصل فيها تحفظها فقهاؤه، و حملة الحديث عن أئمته (عليه السّلام) كفتاوى خاصة تختلف عن فتاوى الجمهور، و يتكتم فيها علماؤه. و كان على روايات أولئك المحدثين و مجامعهم التي تسمى بالأصول، و التي جمعت و ألف منها كتب و منها استخرجت كتب الفروع يدور مدار ذلك الفقه. ثم من بعد ذلك وضع على منهج علمي و درس كما يدرس فقه الجمهور، و رتبت أبوابه و تقسمت أقسامه و دونت قواعده المختصة به و غيرها.

و الشريف درس الفقه الإسلامي على المنهج الذي وضعه علماء الجمهور و أساليبه المتبعة، و مؤلفاته المقررة. درس ذلك و برع فيه كقانون للدولة الإسلامية لا بد من معرفته لمن يندمج في تشكيلات الدولة. و عرف الفقه الجعفري لأحكامه الشخصية و صلاته الألوهية.

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 63

و لهذا نجد عند ذكر الكتب التي قرأها و الأساتذة الذين قرأ عليهم كلها من كتب فقه الجمهور و على علمائه. و إذا تدبر القارئ ما ذكرنا، فلا يستغرب إذا لم يقف في تراجم الشريف، و لا في مؤلفاته التي يذكر فيها الكتب التي قرأها و مشايخه الذين تعلم عليهم ما هو و من هو من كتب فقه الأمامي و من فقهائه. فأنا كثيرا ما نقرأ في مؤلفاته قوله، و قد اختلف الفقهاء

في ذلك. و لكنه لا يعقب ذلك إلا بمقالة أبي حنيفة و الشافعي و غيرهما من فقهاء الجمهور. و لا يذكر فتوى فقهاء أهل البيت (عليه السّلام) نعم قد يقول و يروي عن أهل البيت كذا. و لو أردنا أن نورد ذلك لطال بنا المقام، و لكن المتتبع لا يفوته ذلك. و قد نقل الشيخ المرتضى في رسالة القطع محاورة فقهية بين الرضي و أخيه المرتضى، وقف فيها موقف المستجوب المعترض، و قد أخذها المرتضى عن الشهيدين في الذكرى و الروضة، قالا: (إنه سأل الرضي أخاه المرتضى، فقال: (إن الإجماع واقع على أن من صلى صلات لا يعلم أحكامها فهي غير مجزية، و الجهل بأعداد الركعات جهل بأحكامها فلا تكون مجزية.

فأجاب المرتضى بجواز تغيير الحكم الشرعي بسبب الجهل، و ان كان الجاهل غير معذور). انتهى فهذه المحاورة تدلنا على فقاهة الشريف و معرفته بطرق الاستدلال و الاجتهاد. و قال ابن خلكان إنه عرف من الفقه و الفرائض طرفا قويا.

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 64

مؤلفات الشريف

لقد كان عمر الشريف خصبا بإنتاجه العلمي و الأدبي، و يؤدينا الحساب الدقيق لسني عمره بعد شطب المدد التي أنفقها في مزاولة وظائفه، و في إلقاء دروسه و محاضراته في مدرسته (دار العلم) و في محاولاته السياسية، و مجاملاته للخلفاء و الملوك، و في قرضه للشعر و شطب سني الطفولة و المراهقة إلى حد الاستكمال في طاقة التأليف، من قائمة سني عمره يؤدينا ذلك أن إنتاجه لتلك المؤلفات الناضجة التي تحتاج إلى مادة علمية غزيرة، و اطلاع واسع كان على حد الإعجاز، و لا بد له من فرط ذكاء و جودة في القريحة و ملكة للحفظ و الاختزان. و كل مؤلفات

الشريف تتشابه في قوة المنطق و أساليب البيان و هي:

1- «نهج البلاغة»:

و هو ما جمع فيه الشريف من خطب و حكم و رسائل أمير المؤمنين أبي الحسن علي ابن أبي طالب عليه السّلام، ذكره الشريف في تفسيره حقائق التأويل، و في «المجازات النبوية» مكررا، و في صفحة (167) من حقائق التأويل ما يدل على أنه قام بجمعه قبل هذا الكتاب. و نحيل القارئ الكريم إلى ما كتبه عنه شيخنا حجة الإسلام الهادي آل كاشف الغطاء دام ظله في مؤلفه «مستدرك نهج البلاغة» فقد وفى المقام حقه.

2- «خصائص الأئمة»:

ذكره الشريف في صدر نهج البلاغة و قال عنه: إنه وقع موقع الإعجاب من جماعة من الأصدقاء. و ذكره كشف الظنون أثناء كلامه

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 65

عن «نهج البلاغة». و نقل منه ابن طاووس الحسني الداودي في كتابه المسمى ب «الطرف» و هو من مصادر «بحار الأنوار» للمجلسي. و لم يذكره ابن خلكان. و في مكتبتنا نسخة خطية حديثة الخط كتب عليها كتاب «الخصائص» للشريف الرضي و ذكر مؤلفها في الديباجة أنها تشتمل على خصائص أخبار الأئمة الأثني عشر (عليهم السّلام) إلا إنني أشك في صدق النسبة، فان من مارس مؤلفات الشريف يجزم بأنها ليست من ذلك الأسلوب الذي يحبره قلم الشريف.

3- كتاب «مجاز القرآن»:

و قد سماه الشريف «تلخيص البيان» قال عنه ابن خلكان: و صنف كتابا في مجاز القرآن نادرا في بابه. و ذكر صاحب «كشف الظنون» تحت عنوان (المجاز) للسيد الرضي و لم يزد على ذلك و ذكره مؤلفه صفحة (2، 3، 9، 145) في كتابه «المجازات النبوية» و في حاشية له على «حقائق التأويل» و قال عنه و عن «المجازات النبوية» صفحة (3) منه

أنهما عرانان لم اسبق إلى قرع بابهما.

4- «مجازات الآثار النبوية»:

من مشاهير مؤلفاته و أمتعها طبع في بغداد سنة 1328 ه و قد وقفت منه على نسخة في مكتبة آل الصدر، و النسخة المطبوعة كثيرة الأغلاط و حبذا لو يجدد طبعها.

5- كتاب «الزيادات» في شعر أبي تمام.

6- كتاب «أخبار قضاة بغداد».

7- كتاب «تعليق خلاف الفقهاء».

8- كتاب ما دار بينه و بين أبي إسحاق من الرسائل و الشعر.

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 66

9- كتاب تعليقه على «الإيضاح» لأبي علي.

10- كتاب «مختار شعر أبي إسحاق الصابي».

11- كتاب منتخب شعر ابن الحجاج سماه «الحسن من شعر الحسين».

12- كتاب رسائله ثلاث مجلدات.

ذكر في الدرجات الرفيعة بعضها. و نشرت مجلة العرفان بعضها عن الدرجات الرفيعة.

13- كتاب سيرة والده الطاهر.

ألفه في حياة والده و قبل وفاته بإحدى و عشرين سنة و يقول الشريف في قصيدة مدح بها أباه و ذكر هذه السيرة:

في سيرة غراء تستضوي بها الدنيا و يلبسها الزمان الأطوال

ملئت بفضلك فالولي مكثرما شاع عنها و العدوّ مقلل

14- كتاب «حقائق التأويل».

لا بد لنا قبل كل شي ء من الاعتراف باليد البيضاء التي أسداها العالم المتبحر، و الورع المتبتل الشيخ حسين النوري المحدث الشهير صاحب المؤلفات الرائعة التي طبع أكثرها في المطابع الايرانية، العلم في هذا الباب. لقد كان نور اللّه ضريحه، يجمع إلى فضله الرواية و الدراية و العلم الجم، معرفة واسعة بالمؤلفات و أربابها، و كان من صرعى الكتب، فعلى علو شأنه و تقدم سنه كان يضحي في سبيل جمع الكتب النفس و النفيس، و يصبر لمشاق الأسفار البعيدة لذلك. و تروى عنه في هذا الشأن روايات غريبة. و قد ملك مكتبة مهمة تشتمل على أمهات الأسفار النادرة القيمة، و

هو الذي حمل نسخة هذا الكتاب إلى النجف الأشرف في إحدى رحلاته إلى إيران و أشاعها في الأوساط العلمية

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 67

و أبرزها للملأ. و قد نسخ نسخته على النسخة التي في المكتبة الرضوية، و بعد أن اشتهرت النسخة و تهافت على الاستنساخ منها عشاق العلم، علم أن في مكتبة آل القزويني إحدى مكتبات النجف نسخة منه، و لكنها لا تضاهي تلك النسخة في الصحة. و على النسخة التي أتى بها العلامة النوري نسخت النسخة التي في مكتبتنا، و عليها طبعها منتدى النشر. و قد بذلنا جهودا في تصحيحها، فان نسخة الشيخ النوري التي هي بخطه نسخها باستعجال و بالخط الفارسي، أما نسخة المكتبة الرضوية، فقد ذكر عنها مؤلف فهرست المكتبة الرضوية و هو الفهرست الذي ألف و طبع بارادة ملكية من عاهل إيران البهلوي سنة 1345 ه في زمن تولي محمد وليخان الأسدي لسدانة المرقد الرضوي ما تعريبه:

و من جملة مؤلفات (الرضي) كتاب «حقائق التأويل» الذي قيل إنه يتعذر أن يؤلف مثله، و نسخته الشريفة التي حوتها المكتبة المباركة قديمة جدا، و قد نسخت على نسخة عليها خط المؤلف و لكنها غير تامة الأجزاء، و الذي يوجد هو الجزء الخامس ليس غير و الذي ابتدأ مؤلفه به من أول سورة آل عمران، و قال بعد البسملة (السورة التي يذكر فيها آل عمران و انتهى به إلى أواسط سورة النساء إلى الآية: «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً». و تاريخ تأليف الكتاب سنة 402 ه منقول من خط مؤلفه و تاريخ كتابة النسخة (21) شهر رجب سنة 533 ه و صفحاتها تشتمل على (15) سطر و عدد أوراقه 201 و هي وقف، وقفها ابن

خانون سنة 1047 ه، انتهى.

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 68

فقد بقية الأجزاء:

بعد الفحص و التنقيب في المظان التي يذكر فيها الكتاب، يظهر أن أجزاء الكتاب ما عدا الجزء الخامس منها فقدت منذ زمن بعيد، و لم يقف عليها رجال العلم و الأدب. قال السيد العلامة الحسن آل صدر الدين في كتابه «تأسيس الشيعة»: «منها و هو (مصنفات الرضي) كتابه المترجم «بحقائق التنزيل و دقائق التأويل» كشف فيه عن غرائب القرآن و عجائبه، و خفاياه و غوامضه، بما لم يسبقه إليه أحد. و هو مع ذلك في كبر تفسير التبيان رأيت منه الجزء الخامس ... إلى أن قال و ذكر له السيد المدني في الدرجات الرفيعة كتاب تفسير القرآن غير «حقائق التأويل» و فيه نظر» انتهى.

و قال العلامة النوري في فوائد مستدركه: «و أما التفسير المسمى ب «حقائق التأويل» فهو أكبر من التبيان و أحسن و أنفع». و قال أبو الحسن العمري: «شاهدت مجلدة من تفسير منسوب إليه (الرضي) مليح حسن يكون بالقياس في كبر تفسير أبي جعفر الطبري (و في نسخة) الطوسي». و قد اتفق أرباب الفضل الوسع، في التنقيب و الفحص عنه في مكتبات الهند و إيران و بلاد العرب فلم يقفوا إلا على الجزء الخامس من هذا التفسير.

أطراء التفسير في كتب العلم و الأدب:

أطرى المؤلف نفسه هذا التفسير صفحة (17) من المطبوع فليراجع.

و نقل الخطيب في تاريخه عن أحمد بن عمر بن روح قال: «و صنف (الرضي) كتابا في معاني القرآن يتعذر وجود مثله». و نقل ابن خلكان عن ابن جني قال: «و صنف كتاب في معاني القرآن الكريم يتعذر

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 69

وجود مثله، دل على توسعه في علم النحو و

اللغة». و قال صاحب عمدة الطالب: «و له في التصانيف كتاب «المتشابه في القرآن»»، و مراده به هذا الكتاب فان الشريف المؤلف ذكر في صفحة (196) أنه لا يتعرض غير المتشابه في كتابه. و ذكر ابن شهرآشوب في معالم العلماء: أن له «حقائق التأويل في متشابه التنزيل»، و ان له كتاب «معاني القرآن» يتعذر وجود مثله. و قال المؤلف في كتاب «المجازات النبوية» صفحة (326): «و مجال كتابنا هذا أضيق من أن نسير في أقطار الكلام على هذا الخبر أكثر من هذا المسير، و قد استقصينا ذلك في كتاب «حقائق التأويل»». و قال في صفحة (175) و قد بسطنا الكلام على ذلك في باب مفرد من جملة كتابنا الكبير في «متشابه القرآن» فمن أراد استيعاب معانيه و معرفة الخلاف فيه فليقصد مطالعته. و قال صفحة (8) و قد استقصيت ذلك في كتابي الكبير الموسوم «بحقائق التأويل».

هل للشريف ثلاثة تفاسير أو تفسير واحد؟

قال النجاشي: و له كتب منها «حقائق التنزيل» وعد باقي مؤلفاته.

قال في «روضات الجنات»: و له أيضا تفسيران آخران غير تفسيره الكبير الذي هو على كبر التبيان. ذكرهما النجاشي و غيره أحدهما، «حقائق التنزيل» و الآخر «حقائق التأويل». و قال الشريف في كتاب «مجازات الحديث»: و قد استقصيت ذلك في كتابي الكبير الموسوم ب «حقائق التأويل». و قال في «المجازات» أيضا: «و قد بسطنا الكلام على ذلك في باب مفرد من جملة كتابنا الكبير «في متشابه القرآن»».

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 70

أقول: و لا ريب أنه ليس للشريف إلا تفسير واحد هو «حقائق التنزيل» و الذي بالأيدي منه هو الجزء الخامس فان ما ذكره في المجازات من نعته بالكبير و انه في متشابه القرآن

ينطبق عليه.

فانه «في متشابه القرآن»، كما ذكر ذلك المؤلف و هو كبير أيضا. فقد أشار المؤلف إلى تباعد أطرافه و اتساع أبحاثه نعم يبقى عندنا ما ذكره النجاشي. و الظاهر أنه اعتمد اختلاف النسخ في المأمن التي أخذ عنها و هي مختلفة على أنه يمكن أن يكون للشريف تفسيران، أحدهما «حقائق التنزيل»، و الآخر «حقائق التأويل». الذي يختص بخصوص المتشابه. و لكن الذي يبعد ذلك أنه إذا استثنينا النجاشي، فقل من يعد له تفسيران و انما يقتصر على واحد فراجع.

15- ديوان شعره، طبع مرتين أجودهما الذي طبع في بيروت سنة 1307 ه و قد اخذ عن نسخة خطية كانت في مكتبة الشيخ عبد اللّه نعمة في مجلدين.

قال ابن خلكان: «أن أبا حكيم الخبري أحسن من جمع ديوان الشريف. أما الذي نعتقده في جمع الديوان أن أول من جمعه الشريف نفسه، و لكن على غير تبويب و لا ترتيب. ثم ألحقت به الزيادات التي أنشأت بعد جمعه، و هذه هي القصائد التي نجدها معنونة في الديوان المطبوع بالزيادات. ثم هذا المجموع بوب إلى أبواب الشعر من المدح و الرثاء و غير ذلك، ثم رتب على حروف الهجاء على كيفيتين أحدهما ترتيب كل واحد من الأبواب على حروف الهجاء، و الأخرى ترتيب جملته على حروف الهجاء. و لا نعلم أن أبا حكيم كيف كان ترتيبه

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 71

و تبويبه. و قد أجهدتني معرفة أبي حكيم هذا. و أظنه عبد اللّه بن إبراهيم بن عبد اللّه».

قال السبكي في طبقاته: «أبو حكيم الخبري نسبة إلى خبر بفتح الخاء المعجمة، و سكون الباء المنقوطة بواحدة في آخرها الراء المهملة و هي ناحية بشيراز ... إلى أن قال: و

كان يعرف العربية و يكتب الخط الحسن و يضبط الصحيح (أي أنه وراق) و شرح الحماسة و عدة دواوين كالبحتري و المتنبي و الرضي الموسوي ... إلى آخره».

و ما ذكره و ان كان لا ينطبق على ما ذكره ابن خلكان و من تبعه لأن الشرح غير الترتيب و لأن المذكور بال (ب) و الذي ذكرها ابن خلكان بال (ي) لكن الفحص و التتبع ما أوصلنا لغير هذا و لم نجد فيما لدينا من معاجم التراجم غيره و هو أقرب ما يكون لما ذكره ابن خلكان. و ترجمه في «بغية الوعاة». و ذكر شرحه للحماسة و لديوان البحتري و عدة دواوين و لم يذكر ديوان الشريف.

أساتذته و استاذيته

روى ابن خلكان عن بعض مجاميع ابن جني ان الشريف أحضر إلى السيرافي و هو طفل لم يبلغ عمره عشر سنين، فلقنه النحو و ذكر أنه تلقن القرآن، بعد أن دخل السن فحفظه في مدة يسيرة و نقل عن الدرجات الرفيعة أنه قدم هو و أخوه المرتضى و هما طفلان، على ابن نباتة صاحب الخطب. و حديث قراءتهما على أبي عبد اللّه محمد بن محمد بن النعمان المفيد (رضي اللّه عنه) معروف و خصيراه: أن المفيد رأى في منامه ليلا أن الزهراء (عليها السّلام) دخلت و هو في مسجده بالكرخ، و معها

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 72

ولداها الحسن و الحسين عليهما السلام، و هما صغيران، و قالت:

علمهما الفقه، فانتبه المفيد و لمنامه أثر في نفسه و لما أسفر الصبح من غداة تلك الليلة دخلت عليه بمسجده فاطمة بنت الناصر، و حولها جواريها و بين يديها ابناها (علي و محمد) فقام إليهما و سلم عليهما. فقالت له:

أيها الشيخ هذان ولداي قد

أحضرتهما إليك لتعلمهما الفقه. فاستعبر و قص عليها الرؤيا و تولى تعليمهما و برعا فيما تلمذا به.

و قرأ الشريف على أبي الحسن عبد الجبار. ذكر ذلك في كتابه الموسوم ب «مجازات الحديث»، قال: «و مما علقته من قاضي القضاة أبي الحسن عبد الجبار ابن أحمد، عند بلوغي في القراءة عليه إلى الكلام في الرواية ... إلى آخر ما ذكر». و يظهر من كتابه «مجازات الحديث» أن من مشايخه الشيخ أبو الفتح عثمان ابن جني في النحو، و أبو الحسن الربعي و أبو القاسم عيسى بن علي بن عيس و أبو عبيد اللّه محمد بن عمران المرزباني في الحديث، و القاضي عبد الجبار البغدادي في الأصول، و أبو بكر محمد بن موسى الخوارزمي في الفقه، و أبو حفص عمر بن إبراهيم بن أحمد المقرى الكناني في القراءة، و قد قرأ «مختصر أبي الحسن الكرخي» على القاضي أبي محمد عبد اللّه بن محمد الأسدي. ذكر ذلك الشريف في تفسير وَ «لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ» ... الآية و قرأ «مختصر أبي جعفر الطحاوي» على أبي بكر محمد بن موسى الخوارزمي.

و يقول الشريف في صفحة (85- 86) من تفسيره: «و قد كنت علقت عن شيخنا أبي بكر محمد بن موسى الخوارزمي عند قراءتي عليه «مختصر أبي جعفر الطحاوي» و بلوغي إلى هذه المسألة من كتاب

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 73

النكاح، الحجاج على الشافعي في جواز النكاح بشهادة رجل و امرأتين». و يقول في صفحة (87): «و قال لي شيخنا أبو الحسن علي بن عيسى النحوي صاحب أبي علي الفارسي، و هذا الشيخ كنت بدأت بقراءة النحو عليه قبل شيخنا أبي الفتح عثمان بن جني، فقرأت عليه «مختصر الجرمي» و قطعة

من كتاب «الإيضاح» لأبي علي الفارسي، و مقدمة أملاه علي كالمدخل إلى النحو، و قرأت عليه العروض لأبي إسحاق، و القوافي لأبي الحسن الأخفش»، و هو ممن لزم أبا علي السنين الطويلة، و استكثر منه أو علت في النحو طبقته.

و يقول: «بدأت بقراءة مختصر الجرمي، على أبي سعيد الحسن بن عبد اللّه السيرافي رحمه اللّه في سنة 344 ه». ثم انتقلت إلى أبي علي، انتهى.

و يقول في «المجازات النبوية» صفحة (233) المطبوع ببغداد: «و فيما علقته عن قاضي القضاة أبي الحسن عبد الجبار بن أحمد، فيما قرأته من أوائل كتابه المعروف بشرح الأصول الخمس» انتهى.

و يقول في صفحة (114): «و ذكر لي قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد، قراءتي عليه ما قرأته من كتابه الموسم ب «العمدة في أصول الفقه»».

و يقول في صفحة (93): «و كنت سألت شيخنا أبا بكر بن موسى الخوارزمي (رحمه اللّه) عند انتهائي في القراءة عليه إلى هذه المسألة، من كتاب الطهارة عن المدخنة، إذ لا خلاف في المجمرة» انتهى.

و يقول صفحة (14): «و قال لي أبو حفص عمر بن إبراهيم الكناني، صاحب ابن مجاهد و قد قرأت عليه بروايات كثيرة». و روى ابن

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 74

الجوزي أبو الفرج: «أن الشريف قرأ القرآن و هو شاب حديث، على أبي إسحاق إبراهيم أحمد بن محمد الطبري الفقيه المالكي. فقال له يوما أيها الشريف أين مقامك قال في دار أبي بباب الحول. فقال: مثلك لا يقيم بدار أبيه، قد نحلتك داري بالكرخ المعروفة بدار البركة. فامتنع الرضي من قبولها و قال له: لم أقبل من أبي قط شيئا، فقال: إن حقي عليك أعظم من حق أبيك عليك لأني حفظتك

كتاب اللّه فقبلها».

و إذا استطعنا أن نعرف أساتذة الشريف بأشخاصهم و أسمائهم من مؤلفاته، فانه لا سبيل لنا إلى معرفة تلامذته لا من مؤلفاته و لا من غيرها لأن أغلب من ترجم الشريف لم يوف المقام حقه في ذكر من أخذ منه، و من أخذ عنه و لكننا نعلم أن له تلامذة جمعهم في مدرسته، دار العلم، تلك المؤسسة التي ارصد لها مخزنا اختزن فيه جميع حاجاتهم من ماله و كان يلقي عليهم فيها دروسه تباعا. و انه كان لها خازن خاص يدعى (أبي أحمد عبد السلام بن الحسين البصري) المشتهر بمعرفة علم تقويم البلدان، و صاحب المجمع العلمي الخاص به الذي ينعقد في كل يوم جمعة، كمجمع الشريف الأدبي. و يحدثنا الصابي بالحديث المعروف في شأن دخول المرتضى و الرضي لمجلس الوزير أبي محمد المهلبي، و ما جرى لهما فيه. أن الشريف كان يكفي تلاميذه الذين أسكنهم عمارته، دار العلم، مؤنة كل شي ء و انه لما أحضرت هدية الوزير لهم ما احتاج واحد منهم لشي ء سوى ما أخذه لغريم اشترى منه دهنا للسراج، لأن الخازن كان غائبا. و لئلا يحجب قراء الشريف عن المخزن فقد دفع لكل منهم مفتاحا حتى لا يضطر إلى ما اضطر إليه صاحبهم، و كلما كان فلم يكن فان الشريف عالم

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 75

و يرغب أن يندمج في الأسرة العلمية و لكنه لم يتخذ نهج العلماء في الطابع و المظهر و الوضع، و لم يكن إنشاؤه لمدرسة دار العلم و لا لحشره التلامذة فيها إلا إقرار حيثياته العلمية في النفوس، و لكن الغرض منها موقف، و الغاية تبرر الغرض و التزعم و هذه الأمور من الوسائل و الأسباب

و يكفي منها الاسم و الرسم.

صلاته بالأدباء

لقد خطب مودته الصاحب، و رثاه الشريف، عندما وافاه نبأ وفاته سنة 385 ه بمستهله بقوله:

أكذا المنون تقنطر الأبطالاأكذا الزمان يضعضع الأجيالا!!

و أمره مع الصابي مشهور، و قد مضى و يأتي ما يوضح أسرار صلاته به، و له مودة و تلمذة على أبي الفتح ابن جني، و قد مدحه على تفسيره قصيدته التي رثى بها ناصر الدولة الحمداني، بقصيدة منها:

فدى لأبي الفتح الأفاضل أنه يبر عليهم أن أرم و قالا

إذا جرت الأداب جاء إمامهاقريعا و جاء الطالبون أفالا

و لما توفى أبو الفتح تولى الصلاة عليه و رثاه بقصيدة منها:

لتبكي أبا الفتح العيون بدمعهاو ألسننا من بعدها بالمناطق

شقيقي إذا التاث الشقيق و أعرضت خلائق قومي جانبا عن خلائقي

و لم يتعرض فيها لقراءته عليه و تلمذته له.

و لما صحبه و صادقه مع ابن الحجاج الشاعر، وضع كتابا سماه «الحسن من شعر الحسين» و لما توفي بالنيل و حمل نعشه إلى بغداد سنة 391 ه رثاه على البديهة بمستهله بقوله:

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 76 نعوه على ضن قلبي به فلله ماذا نعى الناعيان

و له صلات وداد مع السيرافي، و لما توفي سنة 385 ه بعد وفاة الصاحب رثاه بقوله:

يا يوسف ابن أبي سعيد دعوةأوحى إليك بها ضمير موجع

لم ينسنا كافي الكفاة مصابه حتى رمانا فيك خطب مطلع

ورثى أبي علي الفارسي سنة 377 ه بقوله:

أبا علي للدان قد سطاو للخصوم إن أطالوا اللغطا

و له رثاء لصديقه أبي المنصور المرزباني سنة 383 ه و كان من أماثل الكتاب و بارعي المحدثين.

شعوره في شعره

لا نوافي هذا الموضوع حقه حتى نأتي على ديوان الشريف كله، و نسل منه شعوره و وجدانه و نحلل شعره. و هذا بحث واسع الأكناف، بعيد

الأطراف، يحتاج إلى إفراد في التأليف، و قد خاضه الأدباء و نخلته أقلامهم، و لكنا لا نخلي الترجمة من كلمة وجيزة فيه مما لا يحسن فيما يكتب كترجمة أكثر منه:

يترفع الشريف عن مغازلة الغواني و لا يطيعه خياله في معاطفة الجمال و الدلال، أما إذا استصرخ المساعير و استعرض وشيك القنا و استظل مثار النقع و استقل ظهور الجياد، و تخوض المنايا، طاوعته شاعريته و استدرجه الحماس، حتى كأنه في معمعة. فإذا انتهت بعض قصائده أشفقت أن يلوثك الدم، أو تخذم بشبا الصوارم، و لكنه قد

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 77

يغضب عليه خياله، و تسرقه و تسترقه معاني البداوة و عقائل الإطناب، و تغير اتجاه العاصفة من نفسه فياوافينا بأمثال قوله:

و إنيّ إذا اصطكت رقاب مطيّهم و ثور حاد بالرفاق عجول

أخاف وضع الراحتين على الحشى و أنظر أنيّ ملثموا فأميل

ثم ما يفتأ أن يعود إلى نعرته فيقول:

و ما رادني ذكر الأحبة عن كرى و لكن ليلي بالعراق طويل

و قوله:

بتنا ضجيعين في ثوبي هوى و تقى يلفنا الشوق من قرن إلى قدم

و أمست الريح كالغيرى تجاذبناعلى الكثيب فضول الريط و اللمم

و بات بارق ذاك الثغر يوضح لي مواقع اللثم في داج من الظلم

مما تجلت فيه عاطفة محتشمة اعتصمت بالعفاف و ترفعت بالنبل و قوله:

غزال ماطل ديني بأجزاع الغديرين

رهوني عنده تغلق بين الهجر و السين

ألا لا شللا يا دامي القلب بنصلين

ثم يستهويها بما تستلذه نفسه من مواقف الشوس البهاليل فيقول:

سلي بي جولة الخيل و ملتف العجاجين و خطار القنا و الموت مضروب الرواقين الشريف الرضي (كاشف الغطاء) ؛ ص77

من المستثقل أن تكلف القريحة لغة الفروسية في ملاطفة الحبيب، كما فعل الشريف في قوله:

ربّ بدر بتّ ألثمه صاحيا و البدر نشوان

قدت خيل اللثم أصرفهاحيث

ذاك الخد ميدان

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 78

و الشريف حتى في غزله لا يترك الأدعاء فيقول:

و مقبل كفي وددت لو أنه أهوى إلى شفتيّ بالتقبيل

جاذبته فضل العتاب و بينناكبر الملول و دقة المملول

و من دقيق وجدانياته التي جمع فيها بين البساطة البداوة و دقة الحضارة، قوله:

يا ظبية البان ترعى في خمائله ليهنك اليوم أنّ القلب مرعاك

الماء عندك مبذول لشاربه و ليس يرويك إلا مدمع الباكي

أنت النعيم لقلبي و العذاب له فما أمرّك في قلبي و أحلاك

و ممن جمع المختار من شعر الشريف و حلل شاعريته في عصرنا، الشريف أبو طالب العلامة علي بن ياسين العلاق و سمى مؤلفه «المرتضى من شعر الرضي».

صلاته بالخلفاء و الملوك و الوزراء

ولد الشريف سنة 359 ه و توفي يوم الأحد السادس من المحرم سنة 406 ه على ما هو مشهور من ولادته و وفاته. و يقال في الوفاة أنها سنة 404 و إن كان الذي يظهر لي من قوله يعرض بنفسه:

إن الثلاثين و السبع التوين به عن الصبا فهو مزور و منعطف

في قصيدته التي مدح بها بهاء الدولة سنة 400 ه خلاف ذلك. و قد ذكر تأريخ القصيدة في نسخة الديوان المطبوعة في بيروت، و في النسخة الخطية التي في مكتبتنا. و لكنني في شك من صحة ما كتب في تراجم شعره في هذه النسخة فان فيها خطأ و غلطا كثيرا، و الخلاف واضح إذا لاحظنا سنة 400 ه التي مدح بها بهاء الدولة، و السبع و الثلاثين من

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 79

عمره، و ما ذكر في تاريخ الولادة و الوفاة على حساب المعروف من عمره، تكون مدته (47) سنة. أحذف منها عشرا، اقل ما يكون قضاهأ طفلا حتى ترعرع بين الحواظن و الأمهات

ثم أستوى لمشاكل الحياة و نتيهت فيه الغرائز، و اعتمد الاستقلال و أخذ أسباب الرشد في سنة 369 ه و ابتدأت حياته العملية و عرف الموالي من القالي و من يجامل ممن يطاول. ففي هذه المدة من الزمن (37) سنة التي قضاها في عاصمة العباسيين، و لم يبارحها إلا لأسفار قصيرة سيرته لها هذه العاصمة، أو اقتضتها بعض الأحوال. لا بد من أن نعرف تقلبات الحكم فيها بنحو الإلمام، و من اختلف عليه من الخلفاء و الملوك و الوزراء، و مبلغ ما كان للشريف من الشأن في هذه الظروف، و ما له من الصلات و المحاولات. لا ريب أن الموقف في هذه المدة من الزمن دقيق و حرج على أمثال الشريف. فالحكم في مدينة السلام كان من نوع الاحتلال العسكري لملوك آل بويه، و أن للخلفاء العباسيين سيادة و لكنها مستفادة، إلا إنها في الوقت نفسه نافذة و مرعية فيما يحاول الشريف من المراتب و الوظائف، كالنقابة و أمثالها مما لا تصطدم مع جوهر الحكم، و لم يضغط عليها التشريع العسكري، و لا تخشاها السلطة الاحتلالية المهيمنة. و لكن مشيئة القوة فوق إرادة الخليفة، و هما على كفي ميزان في النشاط و الهوان، كلما نشطت واحدة ضعفت الأخرى، فلا تكون السلامة و لا يكون النجاح مضمونين للشريف ما لم يستدرج لعاطفتين و يجامل السلطتين، و هما و إن اتفقتا في المراسم و المظاهر فالحقيقة على أشد ما يكون من الاختلاف في باطن الأمر، و المنافسة في لسلطان.

فماذا يصنع الرضي و من أي الموردين يروي نفسه الظامئة الطامحة في

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 80

سنة 363 ه بويع للطائع و في سنة 381 ه خلع و خلفه

القادر باللّه و استمرت خلافته إلى سنة 422 ه. و ملك معز الدولة ابن بوية مدينة السلام (334 ه- 356 ه) ثم ابنه بختيار إلى سنة 367 ه من جملتها من سنة 363 ه إلى سنة 367 ه كان الحكم يتراوح بين بختيار و سبكتكين حاجب المعز و أمير الأتراك الذي نصره الجمهور لأنه سني العقيدة و بين عضد الدولة عم بختيار و من سنة 367 ه ملكها عضد الدولة إلى سنة 372 ه ثم ابنه صمصام الدولة إلى سنة 376 ه ثم أخوه شرف الدولة أبو الفوارس الذي رد إلى والد الشريف أملاكه حتى سنة 379 ه ثم أخوه بهاء الدولة إلى سنة 403 ه ثم ابنه سلطان الدولة أبو شجاع إلى سنة 416 ه. و قد أقام بهاء الدولة بالأهواز سنة واحدة، و استخلف ببغداد أبا علي ابن جعفر المعروف بأستاذ هرمز، و لقبه عميد العراق. و في سنة 401 ه توفي أبو علي فاستعمل مكانه بهاء الدولة، أبا غالب و لقبه فخر الملك، و في سنة 406 ه قبض عليه أبو شجاع سلطان الدولة و قتله.

و لقد كان عصر الشريف عصر اضطراب و فوضى، و كان الموقف بين تلك القوى المختلفة المتدافعة حول الجاه و السلطان، حرجا و هو للنفس الطامحة التي تتوق أن تندس بين التاج و السرير، و تسهم لها بنصيب من ذلك السلطان دقيقا ...

و في مثل هذه الظروف تروج سوق الظنون و التهم، و يؤاخذ بمعاريض الكلام و لوازمه و كناياته و على الكنايات. و كل يدعي أنه أبو الجميع و سيد المجتمع.

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 81

و لقد كان الخلفاء و الأمراء و الوزراء في هذا العصر

تتنافس على استصفاء الكتاب و الشعراء، و تحقد على من لا يوافيها بأدبه و شعره، فان ابن عباد كان يحرق الأرم على المتنبي لأنه ضن عليه بمدائحه له، و ان الصابي كانت نكبته من عضد الدولة على كلمة ظنها تمس- ببعيد- معناها بكرامته.

و الشريف، من باب أن الغاية تبرر الواسطة، كان ربما يتاجر بشعره في ربح مودة رجال الدولة بعد أن اشتهرت شاعريته، و خطبت مدائحه و يعتذر عن ذلك بقوله:

و ما قولي الأشعار إلا ذريعةإلى أمل قد آن قود جنيبة

و اني إذا ما بلغ اللّه منيتي ضمنت له هجر القريض و حربه

دور والدة الشريف

للمرأة في التاريخ السياسي الإسلامي مواقف رهيبة كانت هي فيها عاملا خفيا قويا، تتطامن له العروش و تتم على حكمه الانقلابات الكبرى، و لقد علمت أن فاطمة والدة الشريف، ابنة أخت لزوجة معز الدولة، أميرة البلاط و قهرمانته، و ابنة خالة ولده عز الدولة بختيار.

و هذه المصاهرة عقدت على حساب و تدبر و تدبير، و من أسبابها جليل مقام الناصر الأصم صاحب الديلم، و عظيم شأنه في تلك البلاد. و ربما كان والد الشريف قد زوجها بالسعاء الذين يسرون بأنباء العاصمة إلى والي الأهواز معز الدولة، و يعرفونه بمصير الأمور فيها و ضعف الخلافة و وهنها و استيلاء الأتراك و أميرهم (تورون التركي) على صولجان الحكم و يستشيرون همته لامتلاكها و هكذا كان، فقد دخل معز الدولة

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 82

البيت من أبوابه، و قد كان المستكفي صنيعة الأتراك، بواسطة حظيته التركية التي سماها (علم).

و ما دامت علم هذه مع الخليفة المستكفي، فلا يهدأ بال معز الدولة وارث الحكم التركي و الفاتك برجاله فقد عمد إلى خلع المستكفي و سمل عينيه

و قطع لسان (علم) همزة الوصل بينه و بين الأتراك ثم أقامت المطيع مقامه و لو لم تكن الخلافة في ذلك العصر لا بد منها إقناعا للجماهير و لا بد أن تكون للعباسيين، لأنهاها معز الدولة إلى هذا الحد و اجتثها من أصلها. و يظهر لنا من فزع المطيع في مشكلاته إلى والد، و تمكينه له من الوظائف العظام إن الصلات و الوشائك كانت ما بينهما مبرمة محكمة قبل استخلافه. و لقد كان المطيع يرى أنه هو الوارث الشرعي للخلافة العباسية من أبيه و ربما كان أبو أحمد واسطة عند معز الدولة في صرف الخلافة إليه تلك التي تقمصها إلى أن تنازل عنها لوالده الطائع. و في أيام المطيع توفي معز الدولة، و ماذا يكون في شأن الشريف و قد ملك بعده ابنه بختيار، الذي عطفته العواطف و أطلت به شواجر الرحم نحو الشريف أبي أحمد، فظهر أمره و ارتفع قدره، و بختيار هذا من ملوك اللهو و اللعب، الذين لا يبالون بالمجازفات و لا ينظرون العواقب بعين البصيرة، و عقيدة آل بويه في الخلافة معروفة.

فكانت هذه الأمور من أسباب السعادة و الهناء لهذا الشريف و لا ننسى هنا التجربة المعروفة (ما في الآباء يرثه الأبناء) فقد أوجب هذا أن ينشأ الشريف على مودة الطائع و الولاء له، و ينفرد بذلك الرضي عن أخيه المرتضى الذي ليس له في نفسه اتجاه سياسي و لا رغبة في شؤون الحكم و السلطان، فقد أنس بزهده، و زهد في أنسه، و تورث النسك من أبيه.

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 83

و قد حدثنا الخطيب أن ابن عباد كان يقول أشتهي أن أدخل بغداد فأشاهد جرأة محمد بن عمر العلوي

و تنسك أبي أحمد الموسوي، و ظرف أبي محمد معروف.

و لما استقل الطائع بالخلافة بعد أبيه و استوى على العرش عز الدولة، كان ذلك الدور من أهنأ أدوار حياة أبي الشريف، تهابه الوزراء و تتحاشاه الحجاب و الكتاب، فقد عزل بختيار وزيره أبا الفضل العباس ابن الحسين لعداوته له تلك العداوة التي نشأت من بغضه للشيعة و كان أبو أحمد سفيره إلى (الفتكين) أمير الأتراك و للصلح بينه و بين أبي تغلب بن حمدان. و في هذه الظروف تكونت الصلة المتينة بين هذا الشريف و الصابي. و قد حرك له الوتر الحساس و صب في روحه الأماني العالية، و استدرجه إلى الثقة به، لما أنس منه الطموح و الافتتان بذلك و قد تحدرت منه هذه النزعة إلى ولده الرضي. فان في رسائل الصابي التي تتعلق بهذا الشريف ملق كثير، و مدائح فيها إغراق و إغراء. و الصابي حاذق ماهر بما عنده من التجارب الطويلة في خدمة الخلفاء و الملوك و في أساليب المصانعة و الملق.

و قد استسلمت الخلافة لعز الدولة و مرج نفوذها بحكم سلطانه، و في ذلك يقول الصابي في إحدى رسائله:

ان أمير المؤمنين يعلمكم أن عز الدولة يده التي يبطش بها و عدته التي يعول عليها، (و منها) و قد قرن أمير المؤمنين العهد في ذلك عليكم بعهد البيعة الحاصلة في أعناقكم ... إلى أن يقول: «و ليس لكم صلاة و لا زكاة و لا عقد و لا مناكحة و لا معاملة إلا مع طاعته سرا و جهرا و قولا و فعلا، فاعلموا أن ذلك من رأي أمير المؤمنين ... إلى آخره».

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 84

و قد عرف الطائع من أين تؤكل

الكتف فأباح لبختيار إباحة مطلقة، كل عناصر القوة في خلافته و مكنه حذقه من الحيل و الإغراء، أن يأخذ بمجامع قلبه. فاستمال بذلك الحاشية و منهم أبو الشريف إلى ولاته.

و انعطفوا على تعظيمه على الحدود و التي تتفق و مشيئة الحكم البختياري من أبهة المظاهر و فخفخة المراسم، و العظمة الجوفاء. و تمشى الشريف على هذه الصلة، فكانت مدائحه له متوالية ينتظر لها المناسبة، ليكيلها بالأصواع. و قد يتناسى الشريف فيها فرديته و نفسيته في احايين كثيرة فيخاطب الخليفة العباسي، بما يخاطب به الإمام المفترض من اللّه بالنص كالأئمة (عليهم السّلام) عند الإمامية. ابتدأ هذه السلسلة من قصائده و عمره (15) سنة، فلقد كان مولد الشريف سنة 359 ه و أول ما أنشأه من مدائح الطائع على ما يرويه جامع الديوان قصيدته التي يمدحه بها سنة 374 ه في أيام (صمصام الدولة) الذي كانت وطأته عليهم أخف من وطأة أبيه و في هذه القصيدة شكاية من الأعداء و من الزمان منها:

و هذا الدهر خفض من غرامي و رنق من غبوقي في اصطباحي

ثم سكت الشريف عن مدحه في السنة التي بعدها و ربما كان سكوته من جهة أن الطائع لم يعبأ بقصيدة الشريف، لصغر سنه و لم يكن لمدحه الشأن الذي يستغله الخلفاء بالإشادة بعظم شأنهم و إشاعة مدائحهم على لسان الشعراء البارزين الذين كانت مدائحهم أشبه بالإعلانات التي تروج بها السلع إلا أنه يمكن أن تكون قصيدة الشريف هذه قد شاعت لجودتها فمست أريحية الطائع فاجزل له الصلة في سنة 376 ه و تنبهت قريحته فمدحه و هنأه بمهرجانه بقوله:

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 85 بالطائع الميمون أنجح مطلبي و علوت حتى ما يطاول معقلي

رأي الرشيد

و هيبة المنصورفي حسن الأمين و نعمة المتوكل

و في هذه السنة بالغ الطائع في إكرام والد الشريف و احترامه عند عودته من فارس، فمدحه الشريف بمستهلته:

بالطائع الهادي الإمام أطاعني أملي و سهّل لي الزمان مرامي

ثم جاءت سنة 377 ه و في مهرجانها يقول فيه:

أيادي أمير المؤمنين كثيرةو ما لأمير المؤمنين مذال

و أوقاته اللاتي تسؤ قصيرةو أيامه اللاتي تسر طوال

و في عيد الفطر من هذه السنة يهنيه بقوله:

إلى كم الطرف بالبيداء معقود ... (الأبيات).

و في هذه السنة أيضا عاتبه و مدحه بقوله:

أراعي بلوغ الشيب و الشيب دائياو افنى الليالي و الليالي فنائيا

ثم لما تصرمت هنأه بالمهرجان من سنة 378 ه بقوله:

جزاء أمير المؤمنين ثنائي على نعم ما تنقضي و عطائي

و كان الشريف يحرص على مودة الطائع و يغار عليه، من أن يتصل به من يناوئه و قد استمال بعض أعدائه الطائع بالمال فغاضه ذلك و قال:

و نمي إلى من العجائب أنه لعبت بعقلك حيلة الخوان

فأحذر عواقب ما جنيت فربمارمت الجناية عرض قلب الجاني

و في هذه الأبيات نصيحة جافة، لا يسديها إلا ند لنده، مما يدلنا على أن المودة بينهما أدت إلى التسامح في بعض واجبات المجاملة و الحشمة.

و في هذا العام تعددت مدائحه للطائع و استؤنفت الصلة ما بينهما،

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 86

فاستنزف قريحته في مدائحه و تهانيه. ثم أراد أن يستغل ذلك سنة 379 ه فأوجم و نفسه قلقة و لم نقرأ له فيها سوى قصيدته التي يعاتب بها الطائع على تأخير الأذن في لقائه بمجلس خاص، بعد مواعيد كثيرة. و في هذه القصيدة حماس و مدح و استعطاف، و فيها عتاب و استغناء عما لا يوجب له قدرا و فيها

ميل إلى الشآم و ما فيها من رعاية و عناية تستمد من حكومة العلويين (منها):

ضربنا إلينا خدودا و ساماو قلن لنا اليوم موتوا كراما

و منها:

إذا ما انجنى إلى ابن المطيع حمدنا السرى و أطلنا المقاما

إمام ترى سلك آبائه بعيد الرسول اماما اماما

يعيد لعليائه هاشماإذا ما الأذلاء عدوا هشاما

فهل صافق فأبيع العراق غير غبين و أشري الشئاما

سلام إذا لم يكن لقيةو ان يدا إن تردوا السلاما

و في سنة 380 ه كان يتنجز الأذن بالوصول إليه و فيه الوصول إلى الأماني فقال:

متى أنا قائم أعلا مقامي و لاق نور وجهك و السلام

و عتب عليه الطائع في تأخير مدحه و أنجز له مواعيده فقال:

الآن أعربت الظنون و علا على الشك اليقين

و في سنة 381 ه مدح الطائع بقصيدة فيها عتاب للوزير علي بن أحمد البرقوهي و هي آخر قصيدة من نوعها، مدحه فيها و هو خليفة و مطلعها:

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 87 تأبى الليالي أن تديمابؤسا لخلق أو نعيما

و في هذه السنة قبض على الطائع في داره، في محفل حافل بالقضاة و السراة، و كان الشريف فيهم ففر هاربا و نجا سالما و في ذلك يقول:

أعجب لمسكة نفس بعد ما رميت من النوائب بالأبكار و العون

و من نجاتي يوم الدار حين هوى غيري و لم أخل من عزم ينجيني

أمسيت أرحم من أصبحت أغبطه لقد تقارب بين العز و الهون

في هذه السنة قال يذكر أيامه و يأسف على خلعه و يتوجع مما لحقه:

إن كان ذاك الطود خرفبعد ما استعلى طويلا

ثم سد هذا الباب و أرخى على هذه الصفحة الحجاب، و جمد خيال الشريف من هذه الناحية إلى أن توفي الطائع في مجلسه و هو مخلوع سنة 393 ه فقال

يرثيه:

أيها الظاعن لا جاز الحياأبدا بعدك بالحي الحلال

كنت في الأحجال أرجوك و لاأرتجي اليوم عظيما في الحجال

و يفهمنا هذا الشعر، أن الشريف عقد رجاء منذ نشأ بناصية الطائع.

و إذا تأملنا سيرة الطائع، نجده من الرجال المحنكين ذوي البصيرة و الرأي، فلم تخدعه الظواهر. فقد عرف أن أمر الخلافة أصبح ضعيفا، لا يعبأ به، و أن السلطة تتردد بين الديلم و الأتراك في بغداد، و ان قوى الأتراك محدودة في ذلك الوقت. أضف إلى ذلك ميل الديلم إلى الهاشميين على الإجمال، و ان عطفهم عليهم أكثر و أعظم من ميلهم إلى الأتراك، أنصار مبدأ الجمهور في بغداد، و بالطبع كان الشريف و أبوه أشد ميلا للديالمة، و لقد كان إسلام الشاعر (مهيار الديلمي) و ولاؤه للشريف و أبيه مندفع عن أسس صحيحة، و كان معز الدولة

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 88

يعرف أثر الترك في شؤون الدولة، و قد أوصى ابنه بختيار برعايتهم فلم يعمل بنصيحة أبيه و لما التحم الديالمة و الأتراك في بغداد و انتصر الفريق الثاني أخرج الطائع و أبوه منها لما عرفوه من ميلهما إلى الديالمة. و عضد الدولة هو الذي رد الطائع إلى بغداد. و قد توفي المطيع في المنفى.

و من دهائه زواجه بنت بختيار و كانت المنفعة متبادلة بهذه المصاهرة، و قد أصدر ظهيرا بقلم الصابي. نشره في الأقطار بلزوم إطاعة بختيار و أشار فيه إلى تلك المصاهرة و لم تؤثر هذه المصاهرة في عاطفة عضد الدولة نحوه، لما استوى على بغداد فقد قتل بختيار و تتبع رجاله و حاشيته و من والاه. و لقد تمسك الطائع بمبدئه من الميل إلى الديلم مع ما كان من تغير الأحوال بينه و

بين بختيار في آخر الأمر لما ضاقت به المسالك و قل المال في يده و طلب مالا من الطائع لغزو الروم، فأجابه إن صرف المال على من تجي ء إليه، و أنا ليس لي إلا الخطبة.

و قد نكب عضد الدولة أبا طاهر بن بقية، وزير بختيار وفتك بالصابي كاتب ديوانه، و أمر وزيره عبد اللّه أن يعتقل والد الشريف و يسيره إلى سجنه بالقلعة بفارس فعانى ذلك والد الشريف و صودرت أملاكه كل هذا من أجل صلته التي عرفتها ببختيار. و لم أقف على ذكر للعام الذي اعتقل فيه سوى ابن أبي الحديد يقول، أنه حين قدم العراق قبض عليه و حمله إلى القلعة بفارس. و كان دخول عضد الدولة إلى بغداد سنة 367 ه و قد بقى معتقلا فيها إلى ان ورد بغداد سنة 367 ه. أي بعد وفاة عضد الدولة بأربع سنين ذلك لأنه توفي سنة 372 ه عندما دخلها شرف الدولة. إلا أن الطائع احتفظ بتلك الكرامة التي كانت له على عهد بختيار بدهائه و بصيرته، و تزوج بنت عضد

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 89

الدولة و فوض الأمر إليه عند دخوله بغداد، فسأله أن يسمع الناس بذلك، فقال ليحضر أبو أحمد الموسوي والد الشريف فلما حضر و من معه أشهدهم على ذلك. لقد كان عمر الشريف لما اعتقل أبوه ثماني سنوات، و أطلق و هو ابن ست عشر سنة حسب ما نستنتجه من ضبط تواريخ الأحداث الآنفة، أذن فالشريف ممن روعته حكومة عضد الدولة و هو غلام، و ممن نشأ على مقتها و كرهها و قد مضى صمصام الدولة بن عضد الدولة على عداوة أبيه مع والد الشريف، و قد كانت المكاره تحتوشه

من داخل مملكته و خارجها. و كان سيئ السيرة في هذا الدور (أي من سنة 367 ه إلى سنة 376 ه) الذي تشطر الحكم فيه على بغداد و عضد الدولة و صمصام الدولة كان من أسوأ الأدوار التي مرت على حياة الشريف و أشدها بؤسا. و فيه يتذمر من بغداد و يقول:

مالي لا أرغب في بلدةترغب في كثرة حسادي

فان أباه في المنفى و أملاكه مصادرة، و أخاه المرتضى قد قبع في بيته و انعزل عن كل شي ء، و يظهر مما ذكره جامع الديوان أنه ذهب لزيارة أبيه في فارس. ثم لم يسمح له بالرجوع و بقي معتقلا إلى أن افرج عنهما. قال الجامع و قد مدح (أباه) و يذكر خلاصه و خلاص أخيه من القلعة بشيراز. انتهى.

و لم يعرف ان المرتضى اعتقل مع أبيه، و لا نعرف عقبا لأبي أحمد غير الشريفين. و كانت فاطمة أم الشريفين هي التي تقوم بشأن ولديها، و تتولى الإنفاق عليهما مما ادخرته لنفسها، و من العقارات و الأطيان التي ورثتها من آبائها و ترشدهما إلى طرق التعليم، و تتوسل إلى رجال العلم في تعليمها و هما غلامان حدثان منكوبان من السلطان. و قصتهما

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 90

مع الشيخ المفيد (رحمه اللّه) قد مر ذكرها فكم كانت هذه الوالدة مباركة على أبنائها، في أحرج الأدوار التي مرت عليهم. فكلما تقرأه من رثاء الشريف لها قليل في جزاء عاطفتها و حنانها، على ولديها و تثقيفهما و تربيتهما و لم يبالغ الشريف إذا قال فيها:

فمن الممول لي إذا ضاقت يدي و من المعلل لي من الأدواء

لو كان مثلك كل أم برةغني البنون بها عن الآباء

لقد كان الشريف في أواخر هذا

الدور، يقرض الشعر و قد عرف به في بغداد. و لم يسمعنا منه في آل بويه شيئا إلا ما كتبه لأبيه و هو معتقل بالقلعة في شيراز، لما ظهر موت عضد الدولة. و قد مرت عليك أبياته في ذلك. و إذا قرأتها تجد الروعة و الرهبة تترقرق بين كلماتها، و ليس فيها من أمر عضد الدولة إلا الكتابة و الرمز، ثم لما انقضى هذا الدور ابتسم لهم ثغر الدهر كان شرف الدولة واليا من قبل عضد الدولة أبيه على كرمان، و لما بلغه موت أبيه سار إلى فارس فملكها و نفسه طامحة إلى دار السلام، و لا ريب أن أبا أحمد والد الشريف، لما دخل اتصل بشرف الدولة في فارس و أعمل بصيرته و رأيه في استغلال هذه الفرصة، و بلغه ضعف صمصام الدولة، و كانت قوة شرف الدولة الفاتح ماثلة لديه، فاستعمل- جهده- كل الأسباب التي تقربه من شرف الدولة، و في الوقت نفسه كان شرف الدولة يحتاج إلى مثل أبي أحمد الذي يعرف من بغداد ظواهرها و خفياتها، و الذي يتمتع بشهرة واسعة بين الزعماء و السراة، و الأكابر و العشائر التي تقطن الأرياف المحيطة بها، و الخبير البصير بأسرار حكومتها و تقاليدها. فمن هنالك انعقدت الصلة ما

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 91

بينهما و افرج عن أبي أحمد، و كان كملحق سياسي في الحملة العسكرية التي جهزها شرف الدولة على بغداد، و لما توجه من فارس بصحبة شرف الدولة سنة 375 ه مدحه ولده الرضي بمستهله بقوله:

وقف على العبرات هذا الناظرو كفاه سقما أنه بك ساهر

و لما دخل شرف الدولة مدينة السلام فاتحا، حسر الشريف عن ذراعي خياله، و تفتقت أغشية قريحته،

و استبشر لهذا العهد الجديد، فقال يمدح شرف الدولة و يشكر صنائعه عند أبيه، و يصف اعتقاله بالقلعة بشيراز، بقصيدة أنشأها سنة 376 ه تمثل الظروف التي أنشئت فيها، فهي مخللة بغبار النقع و مصبوغة بدم الأعداء، و تخفق فيها رايات الفتح، و يقايس بها بين دوري الامتهان و الامتنان فتستلذ السعادة في هذا من ذكرى الشقاء في ذلك و مطلعها:

أحظى الملوك من الأيام و الدول من لا ينادم غير البيض و الأسل

و قد وفى له شرف الدولة و رد على النقيب أبا أحمد جميع أملاكه.

و في هذه السنة مدح أبا نصر سابور بن ازدشير عند قدومه مع شرف الدولة بقصيدة منها:

حتى بلغت من العلياء منزلةتفدى الأعاجم فيها بالأعاريب

و يظهر لي أن أبا نصر هذا قبل أن تتمهد الأمور، كان يضع كل ثقته بالشريف و أبيه، و يسمع من أبي أحمد مدائح ولده هذا و شهامته و شعره فراقه أن يصاهر الرضي بتزويج ابنته منه، و ما زال العلويون و لا يزالون يتتبعون سياسة رشيدة في عقد المصاهرات مع الملوك و السراة، و هؤلاء لا يستنكفون من ذلك لشرف الأصل و طيب المحتد،

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 92

و لما ورد في السنة من الترغيب إلى ذلك. و لكنه لما فتح مدينة السلام و ثمل بخمرة النصر، و انثالت عليه أمراؤها و ساداتها و عظمائها، تخطب وده و استبطن الدخائل، فسخ عقد المصاهرة على ابنته. و كما كان العقد سياسة، كان الفسخ سياسة أخرى. و ما أقبح السياسة و ألوانها و في ذلك يقول الشريف:

و إنيّ لا أرجو من علائك دولةتذلّل لي فيها الرقاب العوائد

إلى أن يقول:

فمن ذا ير أمين ولي منك جنةو من

ذا يدانيني و لي منك عاضد

و حام على ما بيننا من قرابةفأنّ الذي بيني و بينك شاهد

و في سنة 376 ه بالغ الطائع في إكرام أبي أحمد عند عودته من اعتقاله، و استعاد ذكرى المودة القديمة ما بينهما، و ربما يكون قد استعان به على تحسين صلاته مع شرف الدولة. و الطائع داهية المجاملة و الماهر البارع في تمشي الأحوال مع الملوك من طريق رجال الحاشية و الإدارة و أرباب الحظوة عندهم.

و في هذه السنة أخذت حال الشريف و أبيه تزكو و تتدرج من حسن إلى أحسن و من هني إلى أهنأ، فالوفاق السياسي بين شرف الدولة أبي الفوارس و الطائع مبرم، و الشريف و أبوه يشربان من الكأسين و يفوزان بالحسنيين، و قد توفي شرف الدولة سنة 379 ه فرثاه الشريف بطرف دام و قلب كئيب، فقال:

أبا الفوارس ما أعلى يدا عصفت من المنون بأعلى عزل و السامي

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 93

إلى أن يقول:

أعاد عزّ أبي غضا و خوله ما شاء من بذل اعزاز و إكرام

ثم ملك بهاء الدولة، و كان سلطانه و ملكه سلطان وراثة لا سلطان غزو و فتح. و الملوكية في الحكومات الأرستقراطية الموروثة تختلف بالروح و الجوهر عن الملوكية التي تشترى بالسيف و الدم، و تأخذ من أربابها بالفتح و الغلبة. فان الأولى تكون فيها عناصر الحكم مرعية الجانب، و الوضع الراهن محترما و الرجال لهم كرامة عند الخلق إلا من شذ و ند منهم لأمور شخصية و ليس الحال كذلك في الثانية، فان رجالها يشتبه فيهم بالتهم و يرعون بالاحتياط، و تسمع فيهم الوشاية، و يمتهنون بالنكايات و النكبات. و على الكتابات تكون النكايات إلا من استطاع

أن يبرهن على برائته و ولائه و نزاهته.

و إذا تمشينا على هذه النظرية فان الدور المعزى (نسبة إلى معز الدولة) ينتهي بسقوط ولده بختيار، ثم يبتدئ الدور العضدي في بغداد و ينتهي باعتقال ولده صمصام الدولة ثم يبتدئ الدور الشرفي و لا يهمنا متى ينتهي. فإذا تأملنا حياة الشريف العملية نجدها تنقسم إلى أربعة أدوار، ينتهي الدور الأول منها بانتهاء الدور العضدي، و هذا الدور قضاه الشريف بالآهات و الحسرات، و ذكرى مجد الآباء و الأعمام و النياحة على من فرط و ذم الزمان، و عداوته للنبلاء و الأعيان و التحمس لشعور مجهول لم يستعرض فيه الهدف. و هذا الشعور دائما يحدث عند النفوس الملأ بآلامها، و شعره في هذا الدور أغلبه من هذا القبيل.

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 94

ثم يبدأ دوره الثاني بابتداء الدور الشرفي، و فيه تتبدل الكآبة بالابتسامة، و الحسرات بالمسرات و يخلف لنا الدور الأول ذكرى مجد الآباء و الافتخار بهم، و الاعتزاز بالنفس و الزهو و الخيلاء، و التماجد بالشيم و السجايا الشخصية و تجد في شعره الكثير من هذا القبيل. ثم ينتهي هذا الدور بخلع الطائع سنة 381 ه.

و يبتدئ الدور الثالث، و كله مطالبات بحقوقه و فيه ملق و مصانعات و استدراج للخليفة و السلطان و ذويهما. و ادعاء ينبه فيه شعور أولياء الأمور و يستفزهم لرعاية شأنه، و فيه تهديد و وعيد بالالتجاء إلى من يرعى الحق و يسدي الواجب لأهله. فقد جلس القادر باللّه سنة 382 ه جلسة أذن فيها للناس عموما و رسم للشريف الحضور في ذلك المجلس على رسمه في السواد، فقال الشريف في ذلك قصيدة جمع فيها للخليفة الإطراء و لنفسه الاعتزاز، و

أنهما فرعا دوحه و قسيما سبيكه فقال:

أبغاة هذا المجد إنّ مرامه دحض يزل الصاعدين و يزلق

و دعوا مجاذبة الخلافة أنهاأرج بغير ثيابها لا يعبق

و في هذا البيت مجاملة و تنكب عن المزاحمة إلى أن يقول:

و أنا القريب إليك فيه دونهم ليدي عندك طود عز أعنق

عطفا أمير المؤمنين فإننّاعن دوحة العلياء لا نتفرق

ما بيننا يوم الفخار تفاوت أبدا كلانا في المفاخر معرق

إلا الخلافة ميزتك فانّني أنا عاطل منها و أنت مطوق

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 95

و لقد كان بهاء الدولة يميل إلى الأتراك أكثر من ميله إلى الديلم، و يستنصرهم عليهم، و كانت الدولة تتقوم بهم في أيامه. كما أن الناقمين على الدولة في بغداد كان شعارهم التظاهر بالولاء للدولة الفاطمية، و أكثر المجرمين السياسيين في بغداد كان مأواهم القاهرة، كما هو مأوى الأحرار على العهد الاستبدادي التركي في العصر الذي أدركناه. و لما سافر الشريف إلى الكوفة و شاع عنه أنه يريد مصر و فيها العلويون آب مسرعا و قال قصيدته التي يتنصل فيها من هذه التهمة، و التي يمدح فيها الأتراك الذي هو مدح لآل بويه في ذلك الحين منها:

أأترك أملاكا رزانا حلومهم حلولا على الزوراء أيمانهم عهدا

و لا يأنف الجبار أن يعتفيهم و لا الحر يأبى أن يكون لهم عبدا

أ آل بويه ما ترى الناس غيركم و لا نشتكي أمرا لغيركم فقدا

خذوا بزمامي قد رجعت إليكم رجوع نزيل لا يرى منكم بدا

و للشريف في هذا الباب أبيات مشهورة، ثار بها على القادر باللّه، و هدده بالالتجاء لمن لا يراه أهلا للخلافة، و لا يعترف له بأمرها، و ينازعه و يشاطره فيها في الممالك الإسلامية. و يحدثنا ابن خلكان، أن القادر باللّه عقد مجلسا أحضر فيه أبا أحمد الموسوي

و أبنه المرتضى، و جماعة من القضاة و الشهود و الفقهاء و أبرز إليهم أبيات الرضي أبي الحسن و قال الحاجب للنقيب أبي أحمد قل لولدك محمد أي هوان قد أقام عليه عندنا ..؟ و أي ضيم لقي من جهتنا و أي ذل أصابه في ملكنا ...؟ و ما الذي يعمل معه صاحب مصر لو مضى إليه ...؟ أكان يصنع له أكثر من صنيعنا ألم نوله النقابة ألم نوله المظالم؟ ألم نستخلفه

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 96

على الحرمين و الحجاز؟ و جعلناه أمير الحجيج!! فهل كان يحصل من صاحب مصر أكثر من هذا ...؟ ما نظنه كان يكون له لو حصل عنده.

فقال أبو أحمد، أما هذا الشعر فمما لم نسمعه و لا رأيناه بخطه و لا يبعد بأن يكون بعض أعدائه نحله إياه. فقال القادر إن كان كذلك فليكتب الآن محضرا يتضمن القدح في أنساب ولاة مصر، و يكتب محمد بخطه فكتب المحضر و شهد الجميع فيه و منهم أبو أحمد و ابنه المرتضى.

و حمل المحضر إلى الرضي أبوه و أخوه فامتنع من تسطير خطه و اعتذر بأني أخاف دعاة صاحب مصر، و اقسم أنه ليس بشعره و انه لا يعرفه.

و ألح عليه أبوه فلم يفعل و قال أخشى دعاة مصر و غيلتهم لي، فانهم معروفون بذلك فقال أبوه يا عجبا! أتخاف من بينك و بينه ستمائة فرسخ و لا تخاف من بينك و بينه مائة ذراع ...؟ و حلف أن لا يكلمه ..؟

و فعلا فعل المرتضى ذلك تقية و خوفا من القادر و تسكينا له. و لما انتهى الأمر إلى القادر سكت على سوء أضمره له، و بعد ذلك بأيام صرفه عن النقابة و

ولاها محمد بن عمر. انتهى. و الأبيات هي:

ما مقامي على الهوان و عندي مقول صارم و أنف حمي

إلى أن يقول:

حمل الضيم في بلاد الأعادي و بمصر الخليفة العلوي

و منها:

لفّ عرقي بعرقه سدا الناس جميعا محمد و علي

و من هذا البيت الذي يعترف فيه الشريف بصحة نسب العلويين، و اتصال نسبه بنسبهم، نعلم السبب الذي منع الشريف من التوقيع على

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 97

المحضر. و في هذا الحديث الذي رواه ابن خلكان و غيره نكات تاريخية، و مواضع يمكن الاستفادة منها في حق الشريف و غيره، لا تخفى على اللبيب. و قد ظفرت بنص هذا المحضر في كتاب سكردان السلطان لابن حجلة مرويا عن مرآة الزمان، لسبط ابن الجوزي، و لكنه مذيل بقوله، و كتب فيه الأعيان الرضي و المرتضى. و هذا لا يتفق مع المعروف من عدم توقيعه فيه و في المحضر سباب و شتائم مقذعة، و طعن في نسب العلويين و نبز لهم بأشنع الهنات و النقائص.

إن الشريف في هذا الدور لم يكن قانعا بما حصل له من الوظائف و ما ناله من الرتب، و لم تكن حاله في أوائل عهد القادر على ما يرام.

لأن القادر خلف الطائع على الخلافة و هو طريده في البطيحة، و صلات الشريف و مودته للطائع معروفة، و لأن القادر لم يكن مثل الطائع. فقد كانت فيه خشونة و انكماش، و انصراف إلى مسائل الجدل، و الكلام في العقائد مع تحزب و تعصب، و رغبة في أن يتخذ لنفسه هذه الخطة من علماء العصر الغابر، و لا يهمه الشعر و لا الشعراء، و لا يرغب أن يتصل بهذه الزمرة، فهو بعيد عن الشريف بالخطة و المنهج. و هذان

الأمران هما اللذان يبعدان الشريف عنه، إلا أن الشريف كانت حاجته عنده و مضطر إلى مصانعته.

و لم يخسر الطائع الخلافة في زمن بهاء الدولة لأنه كان عاجزا عن استدراج بهاء الدولة، و لم تخنه عبقريته في مراعاة موقفه في عصره و لكنه الدرهم و الدينار المفتون بجمعهما الطائع و خزنهما، و شره بهاء الدولة في الاستيلاء عليهما، فماذا يصنع الطائع فأما ديناره و درهمه، أو خلافته. و قد احتفظ بهما فخسرهما. أما صلات الشريف ببهاء

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 98

الدولة فهي انه كان يتصل به كشخصية بارزة ذات كرامة و مجد، لا أقل و لا أكثر، و لم يوجد سبب غير هذا يؤكد الصلة و لا عمل آخر يوجب فتورها، و مع ذلك فالشريف هو صاحب الحاجة. و لهذا كان في بداية أمره يوالي عليه مدائحه و يكثر من إطرائه حتى يملك ولاءه، و لا يهم بهاء الدولة كيفما كانت الصلة بين الشريف و القادر باللّه.

و الشريف في هذا الدور كان يقضي حياته بين اليأس و الرجاء، و يرغب في الزيادة فكلما وصل إلى غاية طمح و طمع في التي هي أسمى منها، فإذا يئس ثار و التهب و صب جامات غضبه، و قد قرأت شيئا من ثوراته النفسية و مجازفاته العدائية فوجدته إذا رجا انصاع و تدانى، و استعرض و شائج الرحم و أواصر القرابة مع العباسيين، فقد قال يرثي أبا القاسم الشريف علي بن الحسين نقيب العباسيين سنة 384 ه:

ألسنا بني الأعمم دينا تمازجت بأخلاقهم أخلاقن و الضرائب

جميعا نمانا في ربى المجد هاشم و أنجب عرقينا لؤي و غلب

إذا عمموا بالمجد لاثت بهامناعمائمهم أعراقنا و المناسب

نرى الشيم من آنافنا في وجوههم و أعناقنا كالت بهنّ المصائب

و

كم داخل ما بيننا بنميمةتقطر بما زاحمته المناجب

و في أيام شرف الدولة، انعقدت المودة بينه و بين الوزير أبي منصور بن صالح و قد استفاد منها لما استمر على وزارته لبهاء الدولة، و لما استقر القادر باللّه في دار الخلافة سنة 381 ه مدحه بمستهله بقوله:

شرف الخلافة يا بني العباس اليوم جدده أبو العباس

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 99

و يظهر عليه آثار التكلف و الشاعرية التي تسخر لها القريحة، و تعتصر منها. و في هذه السنة مدح بهاء الدولة بمستهله بقوله:

بهاء الملك من هذا البهاءو ضوء المجد من هذا الضياء

و الشريف في شعره يسميه بهاء الملك.

و في أثناء هذا الدور أي في سنة 387 ه أنفذ أبو الشريف إلى فارس، للإصلاح بين بهاء الدولة و صمصام الدولة، و في ذلك يقول الشريف:

من العراق إلى أجبال خرامةيا بعده منبذا عنا و مطرحا

و إذا يئس الشريف ثار و التمس الناصر، فتراه تارة يفزع الى علوي مصر و أخرى يستشير نخوة ابن ليلى و يبكيه، و يتألم لخسارته بفقده أو يستميل ربيعه، أي آل حمدان فيقول:

و ما سرني أني أقيم على الأذى و إني بدار الهون بعض الخلائف

فجوبي الفلا أو جاوري بي ربيعةو أسرة غيلان الطوال الغطارف

أو يتحمس مفتخرا و يطري البسالة، و يشنأ الجبن و الجبناء، و يتذكر وقائع آبائه المساعير، و يصف آماله فيقول:

ولي أمل من دون مبرك نضوه تقلقل أثباج المطي البوارك

سقى لك ظمآن المنى كلّ عارض من الدم ملآن الملاطي حائك

لقد مر عليك شي ء من شعره في ذلك، و ينتهي هذا الدور عند استقرار الحكم ببغداد لعميد العراق أبي علي، نائب بهاء الدولة، و خليفته عند إقامته بالأهواز، أي أواسط أيام نيابته

و استخلافه. و يمكن أن ننهيه على سبيل الظن و التخمين سنة 395 ه. و قد تصرم هذا الدور و الشريف و أبوه يتمتعان بعناية بهاء الدولة و رعايته و مودته لهما، و قد

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 100

أثرت مدائح الشريف أثرها و تمكنت الصلة ما بينهما بها. و أما القادر باللّه فلم تكن الحال معه على ما يرام، و ان زهده و انعزاله و اتجاه نفسه اتجاها خاصا، قد أوجب أن يظن الشريف أن وطأته تخف عليه و يأمن منه الشر، و لكنه لم يدعه حتى أنفذ فيه حقده و أبرم في شأنه دخيلة شره، فصرفه عن مراتبه و رتبه.

ثم يبتدى ء الدور الرابع، و الشريف لا يتصل بشؤون الدولة و ليست عليه مسؤولية من وظائفها و لكن له مقامه الاجتماعي، و في هذا الدور هدأ الجأش و انطفى اللهب، و لزم أبو الشريف حلس بيته، و قد كف بصره و قنع الشريف بما استتب له و تحمل المسؤولية على عاتقها، و استنكف عن الخطة الأولى. فهذا الدور كله مصانعات و مجاملات و هو الذي سميته (بالدور السلمي) فلا مطاولة فيه و لا محاولة، مع احتفاظ بالحشمة و حذر من المجازفات، و التورطات و في أواخره كان يستنكف حتى من شعره الذي غالب به، و قارع فيه الملوك و الخلفاء، و طفق يحذو منهاج الوقار، و يرتدي أبراد الاستنكاف و الاستعلاء، و يتشدد الهيبة و يصاقل الوزراء و الحاشية، و لا يعدو خطط المسالمة. و يصطبغ للظروف بألوانها و يتماشى مع مسراتها و أحزانها، و يخشى صولة الجبارين أشد مما لاقى و أنكى. و إذا ذكر أنصاره و رجاله ذكرهم بلهجة الخائف المستجير، فمن ذلك

قوله سنة 398 ه و قد ذكر أبا العوام:

قل لأبي العوام مستدفعابه جماح القد و النازل

يا نجوة الخائف من دهره و يا ثقاف الخطل المائل

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 101

و في سنة 400 ه توفي والده، و له من العمر 97 سنة و عمر الشريف 41 سنة فرثاه بقوله:

و سمتك حالية الربيع المرهم و سقتك ساقية الغمام المرزم

سبع و تسعون اهتبلن لك العداحتى مضوا و غبرت غير مذمم

و كان يحتاط أن تمس كرامته أو ولاءه عند بهاء الدولة أو يظن فيه الاعتزاز عنه، و قد وشي به عند بهاء الدولة إنه يتكبر عليه في إنشاء مدائحه له بنفسه، كما هي عادة الشعراء في إنشاد شعرهم. و الشريف لم ينشد ممدوحا له بنفسه إلا أباه في قصيدته التي مطلعها:

إلى اللّه إني للعظيم حمول كثير بنفسي و العديل قليل

فكتب إليه يعتذر من ذلك:

و ما ضر قوالا أطاع جنانه إذا خانه عند الملوك لسان

و رب حي في السلام و قلبه وقاح اذا لف الجياد طعان

و في بهاء الدولة يقول:

تمنى رجال نيلها و هي شامس فأين من النجم الأكف الشوامس

و الشريف ينسى شخصيته مع بهاء الدولة، و يخلع الادعاء و يمثل دور الشاكرين، و تشبه مدائحه له بمدائحه لأبيه، فيقول فيه سنة 397 ه:

أنا غرس غرسته و أجل الغرس ما قدّرت ثراه يداكا

لم أجد صانعا سواك و لاأعرف في الناس منعما ما سواكا

و ما أقرأ هذين البيتين إلا و يأخذني العجب، إنهما كيف مرا بين شفتي الشريف، الشفتان اللتان نعهدهما كحاشيتي فوهة البركان ..!!

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 102

إلا أن ذلك العهد كان مملوءا بالملق و التبصبص للسلطات المطلقة الجبارة، فكان ذلك أثر في تصاغر نفس الشريف، أضف إلى ذلك

أن صلة الشريف بالقادر كانت قلقة و فيها كلفة، فلم يبق إلا بهاء الدولة و من ثم استدراجه فيقول الشريف في ذلك:

كل يوم فضل علي جديدو علاء أناله من علاكا

لا سفير إليك إلا معاليك و لا شافع إليك سواكا

و ترى في قصيدته التي أنفذها إليه و هو بالبصرة و التي مطلعها:

أغر إن روع جيرانه لم يذق الغمض و لم يهجع

توسلا و تسولا كثيرا. و في سنة 403 ه عقد أمر الملك لأبي شجاع بأرجان بعد أبيه، فكاتبه بالقصيدة التي فيها:

لا ثل عرش بني بويه انهم عذر المكارم و الجواب الأمرع

أنا غرسكم و الغصن لدن و الصباغض و للعيش القياد الأطوع

و يروي أن آخر قصيدة مدح فيها الملك هي التي مدح بها أبا شجاع سنة 404 ه و فيها يقول:

رام مني قود القريض و لولاه لقد جاذب الزمام الأكفا

هب من رقدة الفتور إليه بعد ما غض ناظريه و أغفى

من هذا يستفاد أنه بلغ إلى الحد الذي كان يستنكف فيه القريض، و يرغب ألا يتعاطاه، و أن أبا شجاع كان يطالبه به، و من هذا القبيل قوله:

مالك ترضى أن يقال شاعربعدا لها من عدد الفضائل

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 103 كفاك ما أورق من أغصانه و طال من أعلامه الأطاول

فكم تكون ناظما و قائلاو أنت غب القول غير فاعل

و أصبح الشريف يغتنم الفرص ليسمع بهاء الدولة شعره في مدائحه التي كان يتبخل بها عليه، فلا يمر العام إلا و له قصيدتان أو ثلاث في الأعياد و المواسم و غيرها منذ تولى صولجان الملك، و كان القادر باللّه قد تزوج بنت بهاء الدولة، و تراجع في أيامه و قار الدولة العباسية، و نما رونقها و حسنت صلاتها بالبويهيين

الذين هم مستقر القوة و موضعها، فكان الشريف بولائه لبهاء الدولة ينال بغيته من القادر باللّه. و يمشي الشريف على هذه الخطة في هذا الدور مع قوام الدولة في مدائحه و تهانيه، و مهما يكن من شي ء فلا يعدّ الشريف متنازلا عن مبدئه، فهو لم يزل كما كان، أبي النفس قوي القلب يترفع عن الدنايا و لا يقبل الصلات من الملوك و الوزراء و لا الجوائز التي تندى بها أكفهم كما يفعل المتاجرون بشعرهم. و يأبى لنفسه ما يسوغه أدعياء الأدب لأنفسهم، من كسب العيش عن طريقة التزلف إلى الأمراء و السراة و هن دلته التجارب أنه لا يقوى على تلك القوى الجبارة التي كانت تكتنفه إلا بذلك، و من أجل هذا استنزل مبادئه إلى أعماق نفسه، و سترها بالمصانعات و لاذ تحت أغشية الاتقاء، و قد تضعف إرادته عن صيانتها فيتطاير شررها بين آونة و أخرى، فان نفس الشريف حرمت عليه طيبات الحياة إيثارا للأنفة و الكرامة، و صونا للعرض من الدنس و إبعادا للمروءة عن مواطن الابتذال. و في شعره ثورات و اندفاعات

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 104

نفسية مخيفة، تدلنا على أنه رجل جلاد و نضال دافع فيه عن المجد العلوي، و نقم على المعتدين عليه.

و ينفرد شعره برقة الحنين على ما ذهب من فراطة عزه، و انه ليحشر في زمرة المجاهدين في الحياة، و بالرغم عما يحيط وظيفة النقابة من قيود الرزانة و أغلال الوقار، و كان الشريف حر الإحساس حر الوجدان حر الشعور، يفاصح بالحقيقة و يصارح بما تكظمه الضمائر كيفما أدت إليه الحال، و ان أشد ما شني ء به و أوخذ عليه ذهابه بنفسه إلى أبعد غايات الترفع و الأنفة،

و هو الذي جلب عليه ألوان البغضاء و الشنئآن و لقد قضى حياته في حكم آل بويه، و هم فيهم غرور، و فيهم حقد ديلمي، و إن لم يكونوا في أصلهم ديالمة، كما يخبرنا بذلك الطقطقي. و فيهم خيلاء و زهو، و فيهم حذلقة و مداهنة سياسية، و فتحوا أبوابهم على مصاريعها للشعراء و الأدباء، و اقتضوهم مدائحهم لكي ينسى الناس أصلهم الوضيع، و أترعوا لهم الآمال و نفحوهم بالجوائز، و جاهروا بالسوء لمن يتهاون في مدحهم و الإطراء عليهم، فلهم بذلك يد على الأدب العربي، فقد صقلوا قرائح الأدباء بأياديهم الغراء و لقد كان الشريف من شاعريته في مشكلة دقيقة المخرج، و يقف بين نفسه الأبية المراس التي لا تطاوعه على الملق و التبصبص، و بين أخرى جبارة غاشمة لا تقبل عذرا و لا تخشى في مشيئتها شرا.

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 105

مدح المرتضى لأخيه الرضي

للسيد الشريف أبي القاسم المرتضى علم الهدى أعلا اللّه مقامه مؤلف جمع فيه المختار من الشعر في الشيب قال في مقدمته: «و اعلم أن الإغراق في وصف الشيب و الإكثار من معانيه و استيفاء القول فيه لا يكاد يوجد في الشعر القديم و ربما ورد فيه الفقرة بعد الفقرة فكانت مما لا نظير له و إنما أطنب في أوصافه و استخراج دفائنه و الولوج في شعابه الشعراء المحدثون و للفحلين المبرزين الطائيين أبي تمام و أبي عبادة البحتري في هذا المعنى ما يغير من الوجوه سبقا ... إلى أن يقول:

و وجدت في شعر أخي رضى اللّه عنه و أرضاه و كرم مثواه في الشيب شيئا كثيرا في غاية الجودة و البراعة و رأيت أيضا بعد ذكر ما للطائيين أن أذكره كله

لكثرة الإحسان فيه و الغوص إلى لطيف المعاني و قد أخرجت من ديوانه مائتين و نيفا و سبعين بيتا من يتأملها وجد الحسن فيها غزيرا و التجويد كثيرا و أنا أضم إلى ذلك و أختمه به ما أخرجه من ديوان شعري .. ثم يقول: و يشهد بتقدم في وصف الشيب أو تأخر ضم قوله إلى نظيره و معنى إلى عديله و اطراح التقليد و العصبية و بانضمام ما أخرجته من هذه الدواوين الأربعة يجتمع لك محاسن القول في الشيب و التصرف في فنون أوصافه و ضروب معانيه حتى لا يشذ عنها في هذه الباب شي ء يعبأ به هذا حكم المعاني فأما بلاغة العبارة عنها و جلاؤها في المعاريض الواصلة إلى القلوب بلا حجاب و الانتقال في المعنى الواحد من عبارة إلى غيرها مما يزيد عليها براعة و بلاغة أو يساويها أو

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 106

يقاربها حتى يصير المعنى باختلاف العبارة عنه و تغير الهيئات عليه و ان كان واحدا كأنه مختلف في نفسه فهو وقف على هذه الدواوين .. ثم يقول: و ان شئت أن تختصر لنفسك و تقتصر على أحد هذه الدواوين استغناء به في هذا المعنى عما سواه و لاحتوائه على ما في غيره فأنت عند سبرك لها و أنسك بكل واحد منها و علمك بالاشتراك بينها و الانفراد و الاجتماع و الافتراق تعرف على أيها تقتصر و بأيها تستغنى عما سواه» انتهى.

إن الذي يستثير إعجابي و استغرابي هنا عناية السيد المرتضى بوضع هذا المؤلف و نشاطه و صرف شطر صالح من أوقاته الثمينة في نقد ما جمعه من الشعر في هذا الباب و تحليله و استهداف موضع الفضل بالمقايسة و المقارنة

و نبذ المرذول المبتذل منه و اختيار الأنفس و هو ذلك الرجل الفقيه المتكلم المتبتل و المتبوع الديني و مصدر الفتاوى الفقيه للجماهير في عصره و الشيخ المتقدم في السن عند تأليفه فانه نور اللّه مرقده ولد سنة 355 ه و توفي سنة 436 ه و يقول في هذه المقدمة و أختمه بما أخرجه من ديوان شعري في هذا المعنى فانه ينيف على (الثلاثمائة) بيت إلى وقتنا هذا و هو ذو الحجة من سنة 419 ه و ربما امتد العمر و وقع نشاط مستقبل لنظم الشعر انتهى.

فيكون في العقد السابع من عمره و نحن نعرف ما يرهق المرجع الديني إذا بلغ تلك المرتبة الدينية و أنيطت به المرجعية و وصل إلى هذا الحد من العمر الذي تعفوا فيه معالم الأدب من نفسه فان له بمقامه القدسي الكريم شغل عن كل شاغل و ربما يكون من المفروض عليه في نظر العموم التعالي و التكرم عن مزاولة شي ء من ذلك و الإسفاف

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 107

إليه إلا أن الذي يظهر أنه ليس الأمر على هذه الحال في تلك العصور و ان للسيد المرتضى أعلا اللّه مقامه أدبا جما يتفجر منه لا يصده عنه كل من لابسه من شؤون و مقامات و لا يتنافى معه إن لم يكن عنصرا مهما في تكامل براعته الفقهية.

و يظهر لنا من هذه المقدمة أن السيد المرتضى رحمه اللّه كان معجبا بشعر أخيه الرضي حد الإعجاب و كان يعده في الطبقة العالية من الشعراء و يخرطه في سلك الطائيين الشيخ أبي تمام و أبي عبادة و ان ديوان الشريف الرضي كان مجموعا في ذلك الزمان.

قال في الفصل الذي خصصه لشعر الرضي في

هذا الكتاب: «و هذا ما أخرجته لأخي الرضي، رضي اللّه عنه في الشيب» ثم أورد أبياتا من قصيدته المستهلة بقوله:

دوام الهوى في زمان الشباب و ما الحبّ إلا زمان التصابي

و منها قوله:

مشيب كما أستل صدر الحسام لم ير و من لبثه في القراب

و علق على هذا البيت بقوله: قوله (لم يرو من لبثه في القراب) استعارة مليحة و إنما أشار إلى أن الشيب عجل على سواده في غير حينه و أبانه لأنه لما شبه طلوع الشيب بسلة السيف أراد أن يبين مع هذا التشبيه سرعة وفوده في غير وقته فقال: «لم يرو من لبثه في القراب) تحقيقا للمعنى الذي ذكرنا». و أورد أبياتا من قصيدته:

تنفس في رأسي بياض كأنّه صقال ترامى في النصول الذوالق

و ما جزعي إن حال لون و إنّماأرى الشيب عضبا قاطعا حبل عاتق

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 108

و معنى قوله: (و ما جزعي إن حال لون)، أي ليس في التغيير ما أجزع له لكنني أرى الشيب كالسيف الذي يقطع حبل عاتقي و هذا مع أنه تشبيه للون الشيب بلون السيف يفيد أن حلول الشيب به في قطع آماله و حسم لذاته و تغيير أحواله يجري مجرى قطع السيف لحبل عاتقه و قد أحسن كل الإحسان في هذه الأبيات فما أجود سبكها و أسلم لفظها و أصح معانيها و أورد له قوله في جملة أبيات:

و ما شبت من طول السنين و إنماغبار حروب الدهر غطى سواديا

ثم قال و يشبه تشبيه الشيب و إضافته ذلك إلى حروب الدهر قول ابن المعتز:

قالت كبرت و شبت قلت لهاهذا غبار وقائع الدهر

و قول ابن الرومي:

أطار غبار الشيب فوق مفارقي تلوى سنى الراكضات أماميا

و قول المرتضى

نفسه بعض الشبه:

و يهززن من داعي المزاح مفارقابلا شمط إلا بياض غبار

قال و هذا البيت تضمن تشبيه بياض الغبار بالشمط و لهذا حسن استثنائه من الشمط من حيث أشبه و إن لم يكن من جنسه. و ما تقدم لأخي رضي اللّه عنه و لابن المعتز فيه تشبيه الشيب و بياضه بالغبار و المعنى يتقارب لأن الشي ء إذا أشبه غيره فذلك الغير مشبه له. و أقسم قسما بره أني لما نظمت هذا البيت في وصف الإبل ما كنت سمعت قبله من أحد في نظم و لا نثر تشبيه الشيب بالغبار و إنما اتفق على سبيل التوارد لأن تشبيه هذا بذاك أمر مشاهد يجوز أن يقع لمن فكر من غير

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 109

اتباع منه لغيره و لهذا أنكر على من تقدم من العلماء، إذا قالوا أخذ فلان من فلان إذا وقفوا على متشابه من معانيه.

و أورد له قوله و هو آخر ما أورد له:

و لقد أكون من الغواني مرةبأعز منزلة الحبيب الأقرب

إلى قوله:

فلقد فجعت بكل فرع باذخ من عيص مدركه الأعز الأطيب

ثم علق عليه بقوله: «و لهذه الأبيات ما شئت من معنى و لفظ»، و قال: «و كنا ذكرنا في صدر الكتاب إنا أخرجنا من ديوان أخي رحمه اللّه مبلغا عيناه و وقع إلينا بعد ذلك من شعره ما زاد على ما ذكرناه من العدد و المخرج كله يزيد على الثلاثمائة بيت»، انتهى.

و لولا خوف الإطالة و تحاشي الخروج عن الموضوع لأوردت هذا الفصل بطوله و شفعته بما ذكره الدكتور زكي مبارك في الفصل (بكاء الشباب) من كتاب «عبقرية الشريف»، و قارنت بين النظرتين نظرة الشريف و نظرة الدكتور فيما عرضنا له من

شعر الشريف الرضي في الشيب و انك لتجد من عظيم الصنيعة في مهارة المرتضى و براعته في نقد الشعر و تحليله و غربلة معانيه و نفاذ قريحته في التعمق في دقيق معاريضه في هذا الكتاب ما لا يحسنه إلا المهرة في فنون الأدب و صيارفة الكلام و ما يستقيم دروسا نافعة لمن يعتمد التفوق في هذه الصناعة و قد اقتصرنا من ذلك على إيراد ما يزيدنا معرفة و بصيرة بأدب الشريف الرضي لا غير.

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 110

الافتخار بالنسب

و إذا لاحظنا ما للأنساب من الاعتبارات عند العرب عامة و عند الهاشميين على الأخص و ما لها من كرامة و قوانين عرفية وضعية تعرف السبب الباعث للشريف الرضي، فيما أكثر فيه من الافتخار بنسبه و ما يتصل بذلك من الأيفاء بكل ما يتوصل به لتولي النقابة فيها.

إن للأنساب شأنا مهما عند الأمة العربية قبل الإسلام و بعده و لعلمائها كرامة و قولهم فصل ينفث به حد الشدائد و تحل فيه عقد المكارة في حياتها العائلية و الاجتماعية و قولهم مقطع الأمر و مرجعه، به تشد و شائج الأرحام فينطفئ بها لهيب الأضغان و بقولهم نختار كرائم الأزواج لطهارة الأنساب. و النسب بعد ذلك من الدعائم التي ترتكز عليه مقدراتهم الاجتماعية و تتصل به اتصالا وثيقا لقد كان الحكم في الأمة العربية طائفيا قبل الإسلام و بعده و لحد الآن لم يستأصل ذلك النوع من الحكم من مجموعها الاجتماعي في كثير من أقطارها التي تقطنها مهما كان نفوذ الدولة التي تنضوي تحت سيادتها فان زعيم العشيرة و سريها هو صاحب السلطنة المطلقة في أفرادها و الملك غير المتوج و لكل عشيرة قوانين عرفية تقليدية تتواضع عليها

و تتحد بها صلاتها مع غيرها من الطوائف الأخرى و تتمسك بها إلى حد الغلو و تتكون لها بها شخصية اجتماعية ممتازة و لا يتنافى ذلك مع سيادة الدولة التي يشملها سلطانها. و أن لطوائف الأمة العربية درجات في الكرامة الاجتماعية محترمة تتحاسب عليها في المناسبات التي تقع بينها فكان حتما في هذا الوضع الاجتماعي أن يحتفظ بالأنساب و يكون

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 111

لعلمائها شأن يذكر في كثير من مقدراتها الحيوية. ثم في تعاقب الحكم الأموي و العباسي تضاعفت الحاجة إلى معرفة الأنساب و دونت لها المؤلفات و الكتب و أدخلت في قائمة العلوم التي تدرس و تتفاضل بها العلماء و وضعت لها الكلمات الاصطلاحية و الرموز الفنية و لكن الحاجة إليها في الدور الأموي لا تشبهها في الدور العباسي.

حرص الأمويون على احتكار السيادة الإسلامية للعرب دون غيرهم من الشعوب الإسلامية و شدوا العزيمة على صيانة الحكم العربي من الدخلاء و الموالي و قاوموا العقيدة الشعوبية بكل ما لهم من طاقة و منه فكانت للأنساب العربية و لمن يحمل شهادة عالية بها قيمة مرعية في اندماج حاملها في عناصر الحكم و كان من المحتم الشطب على الدخيل و المولى من ملاك الوظائف و لما أعقبه الدور العباسي تطلعت رؤس الموالي و قبضوا على أزمة الحكم و انكمش أشراف العرب يتطاولون بالعظام و يتفاخرون بما كانت و ضعفت قيمة النسب العربي بصورة عامة و بضعفها قلت الحاجة إلى النسابين إلا أنه من بين ذلك كان لأنساب الهاشميين بصورة خاصة شأن عال في مقدرات الدولة نظير ما كان للعربي القح في دور الأموي أو أعظم باعتبار أنهم الأسرة المالكة و ورّاث العرش الشرعيون و كانت لهم

حقوق استثنائية يتمتعون بها لابد من رعايتها و للشيعة من ناحية أخرى دينية محضة اهتمام آخر بأنساب الهاشميين لاعتقادها أن لهم حقا شرعيا ماليا في بيت المال الإسلامي و هو الذي يسميه فقهاؤها بالخمس الهاشمي و ان لهم حقوقا و وجائب دينية غير ذلك هي من جملة أحكام الفقه الديني.

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 112

عمره و وفاته و مدفنه

عن الخطيب أنه توفي في بكرة يوم الأحد 6 محرم سنة 406 ه و ولد سنة 359 ه ببغداد من دون خلاف و ذكر جماعة أنه توفي سنة 404 ه و أورد صاحب «روضات الجنات» حديثا عن ابن أحمد العكبري قال سمعت المرتضى يقول ولدت سنة 355 ه و ولد أخي الرضي سنة 359 ه و توفي الرضي سنة 405 ه، و لما توفي الشريف الرضي أدهش المصاب أخاه المرتضى و أوجع قلبه، فلم يتمكن من مشاهدة الكارثة، فذهب ماشيا إلى تربة الإمام موسى بن جعفر (عليه السّلام) و جاء فخر الملك الوزير أبو غالب و ولداه الأعز و الأشرف، حفاة مشاة، فصلوا عليه في داره و دفنوه فيها. و رثاه سليمان بن فهد بقوله:

عذيري من حادث قد طرق أمات الهدو و أحيى القلق

و لا يزال في نفسي شي ء من عدم حضور المرتضى موت أخيه و عدم الصلاة عليه و دفنه الذي اتفق عليه المؤرخون. و كيف يمكن أن تحصل لنا قناعة بأن المرتضى، ذلك المتقي المحتسب العارف الرباني، يستخفه الجزع في لقضاء اللّه و قدره فيهرب من حضور هذا المشهد، و هو مع ذلك سري الأسرة و كبيرها و المتوفي مثل شقيقه و هو الرضي. فلابد أن يكون هنالك سر لم نطلع عليه.

و قد دفن في داره الكائنة في

محلة الكرخ بخط مسجد الانباريين.

و ذكر كثيرون أنه نقل بعد ذلك إلى كربلاء فدفن عند قبر أبيه.

و ذكر العلامة الطباطبائي أن موضع قبر الشريف عند قبر إبراهيم المجاب جد الشريف ابن الإمام موسى بن جعفر في الحائر الحسيني، و هو في أواخر الرواق فوق الرأس المقدس من الحرم المطهر. قال

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 113

في «روضات الجنات»: «و قيل أنه الآن في المسجد المتصل بالحائر في الجهة الواقعة خلف الضريح المقدس». و لصاحب «روضات الجنات» هنا تحقيق غريب في التوفيق بين ما اشتهر بين المؤرخين من نقله إلى كربلاء، و بين ما هو المعروف بين الناس في زماننا هذا، من أن قبره في الكاظمية. و إني لآسف جد الأسف أن ينتشر هذا الكتاب في الآفاق من دون أن ينزه أو يهذب و لكنه في المقام قد أحسن فيما أورده من الاختلاف في موضع القبر، و يتلخص ذلك في أنه قبل النقل إلى كربلاء أودع الجثمان في الكاظمية، فشاعت التسمية لهذا المحل (بقبر الرضي) ثم نقل الجثمان إلى كربلاء و بقيت العمارة المشيدة عليه تعرف (بقبر الرضي). قال: «و صحت التسمية بملاحظة ما كان أو لتخلف بعض أجزاء الجثمان عند النقل، و إنها لم تسو و بقيت مشيدة لأنه دفن في جوار قبره بعض الأكابر الصالحين الذين تعظم قبورهم» انتهى.

ففي كلامه هذا بيان لوجه التسمية، و سبب بقاء العمارة مشيدة لكن هذا القبر المعروف واقع بالقرب من مقابر قريش، و أين هو من محلة الكرخ و لعل النقل تكرر، و لعل القبر لواحد من عقبه القريب، و قد شاع باسمه.

و قد رثاه أخوه المرتضى بأبيات منها:

لا تنكروا من فيض دمعي عبرةفالدمع غير مساعد و مواسي

و آها

لعمرك من قصير طاهرو لرب عمر طال بالأرجاس

و رثاه مهيار بمستهله بقوله:

أقريش لا لفم أراك و لا يدفتواكلي غاض الندى و خلا الندى

و أخرى مطلعها:

من جب غارب هاشم و سنامهاو لوى لويا فاستزل مقامها

الشريف الرضي (كاشف الغطاء)، ص: 114

عقب الشريف

أعقب الشريف ولدا واحدا، هو أبو عدنان الملقب بالطاهر ذي المناقب لقب جده أبي أحمد. و قد تولى نقابة الطالبيين ببغداد على قاعدة جده و أبيه و عمه، و انقرض عقب الرضي بانقراضه. و ذكر أنه كان عظيم الشأن معظما عند ملوك آل بويه، و قد مدحه شعراء عصره كأبن الحجاج و مهيار و غيرهما، و نقل في عمدة الطالب عن أبي الحسن العمري الشريف علي بن محمد العلوي النسابة، المعروف بابن الصوفي أنه كان عفيفا متميزا بصلاحه و صواب رأيه.

الى هنا جفّ قلمه الشريف (قدّس سرّه)، و الحمد للّه أولا و آخرا.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.